أعلان الهيدر

الرئيسية الطاهر الحداد رائد حقوق المرأة وحريتها وكرامتها:

الطاهر الحداد رائد حقوق المرأة وحريتها وكرامتها:

الطاهر الحداد

 أفكار الحدّاد بقيت قائمة الذات في أوساط النخب التونسية المستنيرة
أو عندما تنقلب الآية و«للأنثى مثل حظّ الذكرين»؟
سيرة الذاتية:
طاهر بن علي بن بلقاسم الحداد (1317 هـ - 1353 هـ /1899 - 7 ديسمبر 1935) مؤلف ونقابي ومنظر تونسي.
الطاهر الحداد  هو من مواليد 4 ديسمبر 1899 وتوفي في 7 ديسمبر 1935 ، هو مفكر،نقابي وسياسي تونسي. وقام بحملة لتطور المجتمع التونسي في مطلع القرن العشرين. ومن المعروف أنه خاض  نشاط من أجل حقوق العمال النقابية التونسية، وتحرير المرأة التونسية ومنع تعدد الزوجات في العالم المسلم. الطاهر الحداد هو صديق للشاعر أبو القاسم الشابي والنقابي محمد علي الحامي.
ولد الطاهر بن علي بن بلقاسم الحداد سنة 1899 بتونس العاصمة، حيث استقر مع والده بعد نزوحهما إلى العاصمة من حامة قابس مسقط رأسيهما، نشأ في وسط متواضع، تلقى تعليمه في الكتّاب، ثم بجامع الزيتونة وله من العمر اثنتا عشرة سنة بعد وفاة والده سنة 1920م غادر الحداد جامع الزيتونة إثر حصوله على شهادة التطويع ليشتغل ماسك دفاتر وكاتبا بالجمعية الخيرية. في عام 1921م التحق بمدرسة الحقوق العليا التونسية وكان مهتما بالنشاط السياسي والنقابي في إطار الحزب الحرّ الدستوري القديم حتّى عام 1930م.
بدأ حياته كاتبا في جرائد «الأمة» و«مرشد الأمة» و«أفريقيا» ولم يكن يعرف أن تلك الكتابات ستحول إليه الأنظار وتكون محل نقاش واخذ وعطاء بين زعماء البلاد في تلك اللحظة مما دفع الشيخ عبد العزيز الثعالبي يصطفيه من زمرة قليلة ليكون أحد مؤسسي الحزب الحر الدستوري التونسي (1920) بل كانت كتاباته في الجرائد وسطوع اسمه فيها سببا لتكليفه بالدعاية والإعلام في ذلك الحزب. فكان أحد أبرز الأحرار الدستوريين. هاجر الثعالبي إلى المشرق العربي 1923 وترك فراغا كبيرا في البلاد اشعر الحداد باليتم وبلا جدوى مواصلة المسيرة مع زمرة حادت عن المبادئ الأولى للدستور.
جاء محمد علي الحامي بأفكار لا تتسع لها البلاد وأراد أن يقيم الدنيا ويغيّر الطبائع فكان الحداد عضده الأيمن ورأسه المفكر وعينه التي يرى بها الأشياء فأسس معه جامعة عموم العملة التونسية في 1924 ولم يكتب لتلك الحركة أن تعمّر طويلا بل سرعان ما بادرت سلطات الاستعمار إلى حلها في فيفري 1925. لم ييأس الحداد بل واصل النضال وأرخ لتلك الحركة في كتابه الأشهر «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية» (1927) الذي صادرته سلطات الاستعمار ومنعت تداوله.
لم ييأس الحداد بل واصل النضال ورأى أن الإصلاح لا يقوم بغير الصلاح: صلاح الناس والأفكار... فكتب لإصلاح العائلة والمنزل وتحرير المرأة فقامت ضدّه الرجعية الفكرية حيث جرّد من شهائده العلمية ومنع من حق الزواج وممارسة أبسط حقوق المواطنة وطالبوا بإخراجه من الملّة واخرج قسرا من قاعة الامتحانات ومنع من العمل بسبب كتاب وسمه بـ امرأتنا في الشريعة والمجتمع سنة 1930. واصل النضال وكتب كتابا عن إصلاح التعليم الزيتوني تحت عنوان التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة كما صدر له كتاب تضمن أشعاره وآخر تضمّن خواطره، وثلاثتها لم تر النور إلا بعد وفاته وبعد سنوات من الاستقلال.

الطاهر الحداد هو أصيل بلدة الحامة التي أنجبت العديد من الرموز في مجالات السياسة والنضال النقابي والمقاومة. وقد نزح والده إلى مدينة تونس حيث ولد سنة 1899. تعلّم الحداد القراءة والكتابة ونصيبا من القرآن والعلوم الدينية في الكتاب قبل أن يلتحق بالجامعة الزيتونية حيث تحصل بامتياز على شهادة التطويع سنة 1919.
غير أنّ آفاق التعليم بجامع الزيتونة كانت عندئذ محدودة إذ كان يعتمد أساسا على العلوم الدينية كالقرآن والتفسير والتجويد والحديث والفقه واللغة العربية باعتبارها لغة القرآن. كما كان يقوم على الحفظ والذاكرة وعلى تلقين حقائق مسلّمة غير قابلة للنقد. وهو لذلك لم يخوّل لصاحبه النقد والتفكير ولا يمكّن إذن من تكوين نخب قادرة على التحليل والإدراك والتصور والإبداع وبالتالي على مواكبة العصر.

وقد حاد الطاهر الحداد عن هذه العقلية الجامدة وذلك بمثابرته على الإطلاع على الأفكار الإصلاحية الحديثة ونهله من أدبيات تختلف كل الاختلاف عن مرجعيات التعليم بجامع الزيتونة. فأصبحت له ثقافة عصرية نجمت عن اطلاعه على ركائز الفكر الغربي من خلال رواد الحداثة والإصلاح في العالم العربي.
تأثّر الحداد بفكر عبد الرحمان بن خلدون ومناهجه ومبادئه وتعلّم عنه العقلانية وبالتالي المصالحة بين الإيمان والعقل وكذلك المبادئ المناهضة للاستبداد والظلم والتي تقوم على فكرة »العدل أساس العمران« و»الظلم مُؤذِنٌ بخراب العمْران«.
كما اطلع على الفكر الإصلاحي بمصر من خلال روّاده كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذين ناضلا من أجل ملاءمة الإسلام مع مقتضيات العصر وذلك بعدم الاقتصار على أحكام وردت عن علماء القرون الوسطى والتي لم تعد صالحة لهذا الزمان، والاجتهاد طبقا لمتطلبات المجتمعات الإسلامية في عصرهما. وتشبّع كذلك بأفكار المصلح المصري قاسم أمين التي وردت في كتابيه تحرير المرأة (1999) والمرأة الجديدة (1900) وقد عثر فيها الحداد على الأدلة الدينية حول حقوق المرأة المسلمة ومساواتها مع الرجل.
كما تشبّع بالفكر الإصلاحي الذي برز بالبلاد التونسية منذ أربعينات القرن التاسع عشر والذي يقوم على الحداثة والتفتح على الغرب لكسب أسباب قوته لمواجهة تحدياته والدفاع عن الاستقلال والسيادة.
وتونس كانت سبّاقة في الإصلاح. فهي أول بلاد عربية إسلامية قامت بإلغاء الرق وذلك منذ 1846 أي قبل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
❊ أول دستور
كما أقرّت منذ 1857 الأمن والمساواة أمام القانون والاداءات وحرية ممارسة الديانات لسائر سكّان الايالة التونسية على اختلاف الأديان والألسنة والألوان. »وقد وقع التأكيد على هذه الضمانات في دستور 1862 وهو أول دستور يقع إقراره في العالم العربي الإسلامي، وقد نظّر للإصلاح خير الدين باشا في كتاب صدر له سنة 1867 تحت عنوان »أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك«. وكان الحداد واعيا بهذا البعد التاريخي وعارفا بأفكار خير الدين باشا، رائد الحركة الإصلاحية التونسية، الذي بيّن أن تقدم الغرب يعود أساسا إلى طبيعة نظمه السياسية التي تقوم على الحرية والعدل والمساواة واحترام الحاكم للقانون والمؤسسات الدستورية. أمّا تأخّر البلدان الإسلامية فهو يعود كذلك إلى طبيعة نظمها السياسية التي تقوم على الحكم المطلق الذي هو مجلبة لسوء التصرف والفساد والظلم على اختلاف أنواعه. والظلم لا يوفّر الأمن والطمأنينة بين الناس ولا يدفعهم إلى الكد والعمل والبناء بل أنّه كما يقول ابن خلدون »مؤذن بخراب العمران«.
وقد تبنّت الحركة الوطنية التونسية منذ بروزها المنطلقات والمبادئ التي تميّزت بها الحركة الإصلاحية والتي تنبني علاوة على الغيرة على استقلال البلاد وسيادتها، على الحداثة والتفتح والتسامح ونشر التعليم العصري والضمانات الدستورية والحريات الديمقراطية وملاءمة الإسلام مع مقتضيات العصر. ناهيك أن المطالبة بإحياء دستور 1861 وإرساء مؤسّسات دستورية تحمي المواطنين من التجاوزات وتقر المساواة بين سكان الايالة على اختلاف أجناسهم كانت الشغل الشاغل للوطنيين التونسيين الذين أطلقوا على حركتهم اسم الحزب الحرّ الدستوري. وكان الحدّاد طرفا في هذا النضال الذي زاد في رهافة حسه الوطني وكذلك الاجتماعي ممّا جعله يتعاطف مع المعذبين والمضطهدين أي الشعوب المستعمرة والفئات المسحوقة كالطبقة الشغيلة التي تعاني من الاستغلال الخارجي والداخلي وكذلك المرأة التونسية التي تعتبر أدني من الرجل ولا يقرأ لها حساب ولا تؤخذ بعين الاعتبار حقوقها الإنسانية.
❊ تدخلات حماسيّة
ومن أجل ذلك انخرط الحداد في النضال الوطني منذ 1920 أي اثر تأسيس الحزب الحرّ الدستوري للدفاع عن حقوق الشعب التونسي المسلوبة وتميّز بمساهماته في الاجتماعات الحزبية وبتدخّلاته الحماسية ونشر المقالات في الصحف الوطنية.
كما دافع عن حقوق الشغالين التونسيين. فساهم مع صديقه محمد علي الحامي في بعث جامعة عموم العملة التونسيين وهي أول نقابة وطنية، في وقت لم يكن فيه للتونسيين الحق في تأسيس نقابات شغيلة.
وحرص الحداد اثر النهاية المؤلمة التي عرفتها هذه النقابة ونفي روادها خارج التراب التونسي، على تسجيل تاريخ هذه التجربة النضالية في كتاب صدر له سنة 1927 تحت عنوان »العمال التونسيون وظهور النقابات التونسية«.
غير أن الحدّاد قد تميّز خصوصا بنضاله من أجل حقوق المرأة التي ترزح للعقلية الأبويّة والعشائريّة السائدة حينئذ في المجتمع التونسي والتي تعتبر الأنثى أدنى من الذكر وتحدّ بذلك من حقوقها وحرياتها وبالتالي من دورها في المجتمع وذلك على حساب التنمية والتقدم. فكانت المرأة التونسية سجينة الدار والجهل والحجاب، وهي تخضع مع كل ذلك إلى غطرسة الرجل سواء كان أبوها أو أخوها أو زوجها الذين يتصرفون في مصيرها حسب مشيئتهم ودون علمها أو استشارتها. وللدفاع عن حقوقها، قام الحداد، اثر تفرّغه من كتاب »العمال التونسيون« بوضع كتاب حلل فيه الوضع المزري للمرأة التونسية، الذي يعزوه البعض إلى الإسلام بينما الدين الإسلامي، حسب رأيه، بريء من هذه الاتهامات، وقد بيّن في هذا الكتاب الذي صدر سنة 1930 تحت عنوان »امرأتنا في الشريعة والمجتمع« أن الشريعة الإسلامية لا تتنافى مع حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل.
وقد برهن الحداد في كتابه هذا عن جرأة فكرية نادرة، ومقدرة على تحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعقليات السائدة عندئذ في المجتمع التونسي، وكذلك عن إيمانه بالحداثة ودعوته للمساهمة الفعلية في الحضارة الحديثة وعدم الاكتفاء بمظاهرها واستهلاك منتوجاتها. مما يستوجب تحرير المرأة من سجونها كي تساهم في مصير بلادها إذ أنها تمثل نصف المجتمع »والنصف الآخر بين أحضانها«.
❊ بين أحضانها
فهي التي تقوم بتربية الأطفال أي رجال ونساء الغد، وبضمان الاتزان داخل المنزل أي في صفوف العائلة، فتعليمها هو إذن أمر حيوي إذ أن النهوض بالمرأة هو بمثابة النهوض بالمجتمع بأكمله. ثم إنّ هناك تيّار جارف، يحكم تواجد المرأة الأوروبية في بلادنا، يجعل تحرير المرأة وضمان حقوقها أمرا حتميا. فالأجدى، في رأي الحداد، هو تنظيم هذا التيار حتى يتلاءم مع تراثنا وحضارتنا. كل هذا يستوجب تغيير الوضع الذي عليه المرأة التونسية عندئذ والذي أكّد الحداد في كتابه »امرأتنا في الشريعة والمجتمع« عن رداءته.
فقد كانت المرأة قاصرة لا حول ولا حقوق لها إذ يقع تزويجها طبقا لإرادة أبيها الذي يخول له المذهب المالكي تزويج ابنته البكر دون مشورتها. وقد تكره أن تتزوج رجلا لا تتجاوب معه ولو كان شيخا وكانت غير راغبة فيه. كما تكره على الطلاق من طرف زوجها الذي يتصرّف في مصيرها حسب نزواته، وذلك دون ضمانات تذكر. وعليها أن تطيع أوامر زوجها طاعة عمياء وتلبّي جميع رغباته. فإذا سخطت على هذا الوضع يقع بإذن من القاضي وضعها »بدار جواد«، وهو منزل خاص يتم فيه عزلها والتضييق عليها في طعامها وكسائها »لتنزل الوحشة في قلبها فتطلب الرجوع إلى بيتها تائبة مستصغرة«.
وهي، مع كل هذا الاضطهاد، تلعب دورا لا يستهان به في مجالات عديدة. فهي التي تقوم بالاعتناء بالأطفال وتربيتهم وبشؤون المنزل من طهي وغسل وتنظيف والتي كانت شاقة خصوصا في الأرياف حيث تغيب جميع المرافق الضرورية كالماء والوقود والكهرباء. كما كانت فاعلة في بعض القطاعات الاقتصادية كالصناعة حيث تقوم خصوصا في المدن، بالخياطة والتطريز والتشبيك وكذلك في نسيج الصوف والحرير المنتشر في جهات عديدة، وتعلّم هذه التقنيات لبناتها. أمّا المرأة الريفية فكانت تشتغل في القطاع الزراعي وفي حالة الفقر في مزارع الفلاحين والمعمرينوبذلك كانت كثيرا ما تساهم في النفقة على العائلة.
ويعتقد الحداد أنّه لا بدّ لإصلاح هذه الأوضاع المزرية للمرأة وضمان حقوقها، وذلك يستوجب تثقيف الفتاة وتمكينها من التعليم على غرار الذكر حتى تتمكّن من تربية أطفالها تربية صالحة ومن المساهمة، الى جانب الرجل، في النهوض بمجتمعها.
كما ندّد الحداد بالزواج بالإكراه ودعا إلى حق المرأة في اختيار زوجها. وندّد كذلك بطلاق المرأة بالإكراه ونادى بسنّ محاكم للطلاق توفّر لها الضمانات الضرورية حتى لا تكون تحت رحمة الرجل يتصرّف فيها كما يشاء، والى جانب ذلك دعا الحداد إلى تحرير المرأة من الحجاب »الذي هو عادة في المدن وبعض القرى بينما باديتنا على العموم فهي سافرة على الفطرة«. وذلك تماشيا مع التطور والعصر وحتى تكون المرأة طرفا كاملا في بناء المجتمع والنهوض به. ويعتبر الحداد أن كل هذه الأوضاع هي وليدة تقاليد ناجمة عن عقلية أبوية وعشائرية قديمة. فمن المفروض تجاوز هذه العقلية البالية وإصلاح وضع المرأة طبقا لمقتضيات العصر خصوصا أنّ كل هذه المعاملات تجاه الأنثى تعود في حقيقة الأمر إلى الممارسات الاجتماعية للإسلام التي تتناقض تماما مع روح الدين الإسلامي وجوهره.
وقد توخّى الحداد قراءة تاريخية لما ورد في القرآن والسنة النبوية واضعا بذلك أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بتنظيم المجتمع والمعاملات بين المسلمين في إطارها التاريخي. وهو يقول بوجوب اعتبار »الفرق الكبير بين ما أتى به الإسلام وما جاء من أجله«.فما أتى به من أحكام حول العبيد والإماء وتعدد الزوجات والإرث يتعلق بعقلية الجاهلية.
فإذا بقيت هذه العقلية بقيت هذه الأحكام »وإذا ما ذهبت ذهبت أحكامها معها« أمّا ما جاء الإسلام من أجله و»هو جوهره ومعناه فيبقى خالدا بخلوده كعقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس«.فالحدّاد يفرّق إذن بين أركان الإسلام وفرائضه وعباداته وقيمه التي من المفروض أن تكون ثابتة لا نقاش فيها وبين الأحكام التي تنظّم حياة الناس ومعاملاتهم التي هي ظرفية وبالتالي تخضع إلى نواميس التطور التاريخي.
فالإسلام هو، بالنسبة إلى الحداد، دين الواقع. ومن أجل ذلك أخذ بعين الاعتبار الظروف والعقليات السائدة عند ظهوره وعمل على تغييرها تدريجيا حتى لا ينفر الناس من الدين الجديد وتحقيق ما جاء من اجله أي إرساء مجتمع يقوم على العدل والمساواة بين جميع المسلمين وبالتالي بين العبد والحر وبين الرجل والمرأة.
ولانّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان فهو يأخذ بعين الاعتبار نواميس التطور التاريخي ناهيك أن العديد من الأحكام التي وردت في القرآن قد نسخت بأحكام أخرى في عهد الرسول الذي دام حوالي 22 سنة »فكيف إذا وقفنا بالإسلام الخالد أمام الأجيال والقرون المتعاقبة بعد بلا انقطاع ونحن لا نتبدّل ولا نتغيّر«.
❊ الشريعة مرنة
فالشريعة، في نظر الحداد، »جاءت مرنة متسعة المعاني من أجل قبول أطوار الحياة الإنسانية«. وقد توخىّ الحداد قراءة مقاصدية وتحليلا للشريعة الإسلامية للنظر في مواضيع عديدة كالعبودية وتعدد الزوجات والإرث واضعا الأحكام المتعلقة بهذه القضايا في إطارها التاريخي مبينا أنها أخذت، عند نزولها، بعين الاعتبار الأوضاع والعقليات السائدة في المجتمع العربي مع العمل على إصلاحها بصفة تدريجية. فكان ذلك الشأن بالنسبة إلى العبودية التي كانت منتشرة عند ظهور الإسلام خصوصا في صفوف الملاّكين والتجار الذين يتخذون العبيد وسيلة للعمل في حقولهم ومتاجرهم، تكفيهم مؤونة الأجراء.
فلا يمكن إلغاء هذه الظاهرة الاجتماعية دفعة واحدة دون مصادمة مصالح الناس وبالتالي تنفيرهم من الدين الجديد. فاكتفى الإسلام في بداية الأمر بتليينها والحد منها قصد إبطالها تدريجيّا. فقد أوصى النبي بالعبيد كي يعاملوا بالحسنى، ومنع اتخاذ الأَمَةِ وسيلةً للربح عن طريق البغاء وصدرت أحكام أصبحت بموجبها الأَمَةُ التي أنجبت أطفالا حرّة عند وفاة سيدها. كما جعل الإسلام منذ بدايته أن عتق رقبة هو بمثابة التكفير عن إخلال بقواعد الإسلام أو ذنب وقع ارتكابه، وكان ذلك بمثابة الحثّ عن المواصلة في هذا الاتجاه للقضاء نهائيا على العبودية دون اعتبار ذلك خرقا للمبادئ الإسلامية وفعلا فقد وقع إلغاء الرقّ تدريجيا في جميع المجتمعات الإسلامية دون أن يمسّ ذلك بمعتقداتهم الدينيّة.
ولا أحد حتى في الأوساط السلفيّة المتطرّفة، يطالب اليوم بالعودة إلى العبودية بدعوى أنها حلال ما دام لم يقع تحريمها صراحة.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى وضع المرأة الذي كان مزريا في العهد الجاهلي. وقد عمل الإسلام على تغيير العقلية السلبيّة تجاه المرأة السائدة عند ظهوره. فقاوم ازدراء المرأة والتشاؤم من ولادة الأنثى وكان النبي يتباهى، لمقاومة هذه العقلية، بكونه أبا البنات. كما منع القرآن بصراحة وأد البنات عند ولادتهن في آية صريحة: »وإذا الموؤودة سُئِلِتْ بأيّ ذنب قتلت«. ثم إن النبي كان يقبل النساء ويتحدث معهن دون حرج لتلقينهن مبادئ الإسلام وقيمه. كما أعطى الإسلام حقوقا للمرأة لم تكن متوفّرة لها من قبل. من ذلك حقّ التصرّف في أملاكها وحقّها حسب الإمام أبي حنيفة النعمان في اختيار زوجها وفي تولّي خطّة القضاء. وبصفة عامة لا شيء في القرآن والسنة يمنع المرأة من تولي مناصب في الدولة وفي المجتمع مهما كانت. ويعتبر الحداد أن الإسلام عمل على إرساء المساواة تدريجيا بين الرجل والمرأة وذلك وفقا لجوهره الذي يقوم على العدل والمساواة بين الناس. وعلى هذا الأساس عالج منذ ظهوره الأوضاع السائدة في هذا الشأن كقضية تعدد الزوجات وقضية الإرث قصد إصلاحها. فما دام الرجل كان، قبل ظهور الإسلام وخصوصا في صفوف الملاّكين يتزوج ما طاب له من النساء دون حساب، كَيْ تعمل في حقوله وتكفيه مؤونة الأجراء، فقد حدّدها الإسلام بأربع مع وجوب تسريح الباقي. ثم أدرج شروطا لتعدد الزوجات يستعصي تطبيقها كوجوب العدل بين النساء كما ورد ذلك في القرآن: »وان خفتم ألا تعدلوا فواحدة«... ثم أضاف: »ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم«... وهذا يعني أنه يستحيل على المسلم تحقيق شرط العدل وبالتالي لا يمكنه منطقيا أن يتزوّج أكثر من امرأة. ثم إنّ الرسول أشار إلى الإيذاء الذي يسببه تعدد الزوجات للمرأة وذلك عند رفضه لزواج علي ابن ابي طالب على ابنته فاطمة معتبرا أنها قطعة من دمه وان كل ما يؤذيها يؤذيه.
❊ وجوب الكفالة
كما انطلق الإسلام في قضية الإرث من واقع المجتمع العربي عند ظهوره. فنصّ القرآن على أن يكون »للذكر مثل حظ الاثنين« في حين كانت المرأة قبل ذلك محرومة من الإرث بل تمثّل جزءا منه، وكان الإعلان عن وجوب كفالتها من طرف الرجل بمثابة التعويض لها. فهل يمكن اعتبار ذلك مؤشّرا للمثابرة في هذا الاتجاه وتحقيق في نهاية المطاف المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى وإلغاء التباين بين الرجل والمرأة في هذا المجال، مثلما كان الشأن بالنسبة إلى العبودية؟ خصوصا ان الحكم »للذكر مثل حظ الاثنين« الذي ورد في القرآن لم يكن بالمطلق، فالشريعة الإسلامية تنص في حالة وفاة الأبناء قبل أبويهم أن يكون لكل من الأب والأم سدس مكاسبهم أي أنهما يتساويان في الإرث. بل هناك حالة تنقلب فيها الآية وتكون فيها للأنثى مثل حظ الذكرين. فإذا مات الأبناء قبل أبويهم ولم يتركوا ذرية، فللأم ثلث إرثهم. وعندما تكون الميّتة هي البنت يعود نصف مكاسبها إلى زوجها وثلثها لامها ولا يبقى للأب سوى السدس. ثم إن حجّة الكفالة التي يقدمها الفقهاء لتبرير تفوّق الذكر في الإرث على الأنثى قد تجاوزها الزمان. إذ أنّ هناك حالات لا تحصى في المجتمعات الإسلامية، تعود فيها النفقة على العائلة إلى المرأة وليس إلى الرجل. ومثلما ولّت قضية العبودية وانقرضت مع التطور التاريخي وتغيّر الأوضاع والعقليات يمكن في نفس السياق إرساء المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة.
❊ إرساء تدريجي
ومن أجل ذلك دعا الحداد إلى الاجتهاد في الإسلام طبقا لمبادئه الخالدة التي تقوم على العدل والمساواة ولا تتناقض مع إرسائها تدريجيا وطبقا لنواميس التطور التاريخي، فعوض الرجوع إلى أقوال فقهاء سابقين اجتهدوا حسبما يقتضيه عصرهم، على العلماء أن يجتهدوا حسب ما يقتضيه عصرنا. فكان ذلك موقف الإمام أبا حنيفة النعمان الذي التحق ببعض الصحابة، عندما قيل له إن قراءته للشريعة الإسلامية تختلف نوعا ما عن تأويلات من سبقوه أجاب: »هم رجال ونحن رجال«، كذلك الشأن بالنسبة إلى المصلح جمال الدين الافغاني (1839 / 1897) الذي يرى، أن الإصلاح يستوجب نبذ التقليد واعتماد الاجتهاد »وفقا لحاجيات الزمن وأحكامه«. وكان يعتقد جازما أنّه »مثلما سمح بعض الأئمة السابقون لأنفسهم أن يخالفوا أقوال ممن تقدمهم فاستنبطوا وقالوا ما يتفق وزمانهم، من حقه أن يستنبط ويقول ما يوافق زمانه«.
ويندرج فكر الحداد في هذا السياق. فهو لا يقرّ بآرَاء علماء تتعلّق بعصور تختلف تماما أوضاعها وعقلياتها عن واقع عصرنا، فهل من المعقول بعد الثورة التي عرفها علم الفلك، أن تعتمد اليوم على الرؤيا لإثبات ظهور الهلال؟ ثم هل من المنطق، بعد ثورة المواصلات، أن يسمح للصائم في حالة سفر، أن يفطر في شهر رمضان، إذا كانت المسافة التي سيجتازها تناهز الثمانين ميلا وهي مسافة يمكن اجتيازها اليوم في اقل من ساعة؟ من هنا تبدو لامنطقية منهج العلماء الذين يعملون بأقوال من تقدمهم في العصر ولو بمئات السنين ويحكمون بأحكامهم مهما تباينت أحوال المجتمعات الإسلامية باختلاف العصور »من ذلك جمود الفقه والقضاء في الإسلام، وكل من يحاول علاج هذه الحالة يقع اتهامه من قِبلِ هؤلاء العلماء بحرب الإسلام ونقض الشريعة«.
وفعلا فقد قام الشق المحافظ السائد في أوساط جامع الزيتونة بمهاجمة الحداد بشراسة نادرة تمثّلت خصوصا في »مصادرة كتابه وسحب شهادة الزيتونة منه وإعلان الشيخ محمد الصالح بن مراد« »الحداد على امرأة الحدّاد«. وقاسى الحدّاد كما أكّد ذلك الحبيب بورقيبة، »الأمرّين من مجتمع تنكر له ورماه بالإلحاد حتى انهارت قواه، وأنهكت أعصابه وعاجله الموت على حال سيئة«، وذلك سنة 1935 وعمره 36 عاما.
ولم يجد الحداد في محنته هذه مساندة تذكر سوى من بعض المثقفين المستنيرين، مع احتراز النشطاء الوطنيين الذين، رغم تفتّحهم وإيمانهم بالحداثة وبوجوب ملاءمة الإسلام مع مقتضيات العصر، كانوا يحابون الممارسات الاجتماعية للإسلام، حتى لا ينعزلوا على القوى الشعبية. إذ كانوا عندئذ يعملون على ربط الصلة بها وتعبئتها للضغط على السلطات الاستعمارية قصد الحصول على مطالبهم وتحقيق في نهاية المطاف استقلال البلاد التونسية.
غير أن أفكار الحداد بقيت قائمة الذات في أوساط النخب التونسية المستنيرة، وقد وفّرت أرضية مهّدت الطريق لصدور مجلّة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956 أي حوالي أربعة اشهر بعد الإعلان عن الاستقلال. وقد جاءت هذه المجلة كتجسيم لفكر الحداد الذي يعتبره الحبيب بورقيبة »رائد تحرير المرأة التونسية«، إذ توخّى روّادها نفس تمشيّ الحداد وأهدافه أي التعامل مع جوهر الدين بعيدا عن سلطة العادات والتقاليد كما أكّد ذلك الزعيم الحبيب بورقيبة: »وقد أعدنا الأمور إلى نصابها بالرجوع إلى جوهر الدين في أصالته وسمو مبادئه« مضيفا: »ابتدأنا الإصلاح بمقاومة النظرية الخاطئة التي تعزو تأخر المرأة لتعاليم الدين الإسلامي«. غير أنّ مشروع تحرير المرأة وضمان حقوقها يخضع إلى ضرورة ملاءمة الإسلام مع مقتضيات العصر. وقد يستوجب إلغاء بعض الأحكام الشرعية التي تتناقض مع الضرورة الاجتماعية ومصلحة الأمة الإسلامية، مادامت »الضرورات تبيح المحظورات«.
❊ علماء جامدون
ولتحقيق ذلك كان لابد من تجريد علماء الدين الذين يصفهم الحداد بالجمود ويعتبرهم الحبيب بورقيبة »عقولا جامدة وقلوبا طمس عليها حتى صارت تعتقد أن العادات والبدع هي من الدين« من نفوذهم في التشريع والقضاء وبعث مؤسسات وضعية بدلا عنهم.
ومثلما توخىّ الحبيب بورقيبة ورفاقه مناهج الحداد في قراءة الأحكام الإسلامية ووجوب تطورها، اعتمدوا مشروعه الإصلاحي الذي أصبح بمثابة المادة الأولية لتوجّهات مجلّة الأحوال الشخصية. فكان الحداد بمثابة المنظّر لهذه المجلة بينما عمل الحبيب بورقيبة على تجسيم هذه النظرية وذلك رغم معارضة جلّ رجال الدين.
ثم إنّ بنود مجلة الأحوال الشخصية تتناغم مع مشروع الحداد حول تحرير المرأة وضمان حقوقها من ذلك تحجير تعدد الزوجات وانعقاد الزواج برضا الطرفين وتحديد السن القانونية له، وإخراج الطلاق من سلطة الزوج وسحب القضايا المتعلقة به من الفقهاء لتوكيلها إلى محاكم وضعية. كما أقرّ القانون الجديد حرية المرأة وحقوقها وذلك بالتأكيد على حقّها في السفور ومساواتها مع الرجل في جميع المجالات كالتعليم وتعاطي الوظائف والمسؤوليات.
وان لم تقر مجلة الأحوال الشخصية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة فقد مكّنتها من ارث كامل تركة والدها عند انعدام الإخوة الذكور. وكانت أحكام الشريعة الإسلامية لا تخولها، في مثل هذه الحالة، سوى من نصف ارث والدها إن كانت وحيدته ومن ثلثيه تتقاسمها مع بقية أخواتها بينما يعود النصف أو الثلث الباقي إلى اقرب الذكور من عائلة الأب الراحل.
ومهما يكن من أمر، فقد تحقّقت، مع صدور مجلة الأحوال الشخصية، سنة 1956، أي بعد حوالي 21 سنة من وفاته، طموحات الطاهر الحداد وأحلامه إذ أصبحت المرأة التونسية تتمتّع بموجب هذه القوانين مقارنة بالأوضاع السائدة في جلّ البلدان العربية والإسلامية الأخرى بمجال واسع من الحريات والحقوق بما فيها المساواة مع الرجل.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.