أعلان الهيدر

الرئيسية ما بين الكـُتاب والمسجد

ما بين الكـُتاب والمسجد

ما بين الكـُتاب والمسجد
ما بين الكـُتاب والمسجد
للروائح سطوتها على الأمزجة باختلاف أنواعها وهناك روائح تظل عالقة بحاسة الشم مهما تباعد الزّمن وضعفت الحواس...وروائح الصمغ والطين وسجاد الصّمَارْ والهواء الممزوج بالرّطوبة في فضاء الخلوة ظلت عالقة بحاسة الشم منذ أن لفحت أنفي لأول مرة وأنا طفل يتخطى في انبهار عتبة الخلوة بين الأصوات المجلجلة بآيات الذكر الحكيم...وأنا في مرحلة الكهولة كلما مررت حذو الخلوة التي تغيرت ملامحها الأولى بتقويض جدرانها وتغيير شكل معمارها إلا وعاودتني تلك الرائحة وصدى صخب الأطفال،هذه الخلوة التي أتحدّث عنها الآن هي تابعة لجامع عريق ظل منتصبا بشموخه الضارب في تاريخ الحي والمدينة يحمل اسم مؤسسه "سيدي عبد لله بن خود"تأسس هذا الجامع المعمور حسب الرّخامة المثبة على مدخله سنة 1101هـ 1690م يتوسط هذا الجامع حي الدبدابة أحد أهم أركان مدينة الحامة من حيث القدم والنمو الديمغرافي... من الجهة الغربية للمسجد ساحة صغيرة كانت سوقا يُسمى السّوق "الفقاني" تفريقا بينه وبين السّوق اللطاني،وإلى جانب الأنهج الفرعية تتفرّع السّاحة إلى شارعين كبيرين واحد منحدر يؤدي إلى جامع سيدي أبي علي السّني والآخر يؤدي إلى وسط مدينة الحامة التي وقع تحديثها اثر انتصاب الحماية بعدما انهار سورها منذ قرون خلت، هذه السّاحة كانت تضم بعض الدكاكين وخلوة أي كـُتاب تحتضن الصبيان لحفظ القرآن الكريم لا تبعد عن المسجد الجامع سوى بضعة أمتار...والخلوة مربّعة الشكل يتوسطها عمود ضخم مربّع تتقاطع فوقه دعامات السّقف الخشبي، هذا العمود كنا نلتجئ إليه خوفا من ردة فعل المؤدب عند اندلاع الصخب والتشويش وقبضة " بوبكر بن عبد السلام عند حضور الفلقة... والمرحوم بوبكر ضرير كرّس شبابه لخدمة الجامع بكل تفان المريد وهو شاب ذكي يعرف كل أبناء الحي من خلال أصواتهم، والمؤدب رجل طيّب مرّت على يديه أجيال كان له الفضل في إخراجهم من ظلام الأمية،يجلس المؤدب في زاوية من زويا الخلوة وإلى جانبه مجموعة من العصي تتفاوت في الطول يُملأ الآيات من مختلف السّور مواكبا كل المستويات في آن واحد ،هذه الخلوة كانت تُعدّ التلاميذ للالتحاق بالفرع الزيتوني بقابس قبل أن يُحدث فرع بالحامة...وكان من يختم جزءا من القرآن الكريم يزيّن اللوح بإفريز من الألوان، ولمسح الكتابة على اللوح يوجد عند مدخل الخلوة محبس كبير به ماء وإلى جانبه كوم من الطين الأخضر، والمؤدب الصادق بن إبراهيم عيدودي هو إمام لجامع سيدي عبد الله القريب من الخلوة يؤم المصلين في الأوقات الخمس كما كان يؤمهم يوم الجمعة يساعده أحيانا" سيك الطيب الدّبيلي" وهو جزائري الأصل عاد مع أبنائه إلى الجزائر إثرالاستقلال ،وعندما عجز" سيك الصادق "عن الإمامة عوّضه المرحوم الجيلاني بن علي محمود ناجح... وضمن فضاء جامع سيدي عبدلله هناك بئر مياهه ساخنة صالحة للشرب يملأ منه العابرون ونساء الحي في أوقات محدّدة تحت إشراف "بوبكر بن عبد السلام، وكانت تزين الميضة المتفرّعة عن البئر نخلة عماري عادة ما تبكـّر بالنضج...وكنا نحن صبيان الحي لا نتجرأ على دخول المسجد إلا عند الاستعداد للاحتفال بالمولد النبوي الشريف فنتابع السّهرات التي تقام على امتداد عشرة أيام... في الليلة الأولى عندما نستمع للمؤذن "الشيخ صالح مرزوق" بصوته الرّقيق العذب يرفع أذان العشاء نظل نترقب انتهاء الصلاة إثرها يقع السّماح لنا بالدخول لمتابعة فقرات الإنشاد وسرد قصة السّيرة النبوية في خشوع وانتباه وكنا نردّد مع المرددين:
صلوا يا أهل الكمال * * * *على النبي باهي الجمال
من حوا كل المعلي * * * *بـدره مـازال عــــــال
وكم كانت القشعريرة تنتابنا عندما يأتي سرد السّيرة على لحظة الوضع...
قياما صفوفا أو جثيا على الرّكـُبْ
فنقفُ مع الواقفين في لحظة تغمرنا المهابة... ونردّد:
عطـّر اللهم قبرهُ الكريم*** بعرف شذي من صلاة وتسليم
اللهم صلي وسلم وبارك عليه...
والمنشدون والسّاردون هم على التوالي: الفيتوري بن المختار عفيف،
الطيب بن بلقاسم ناجح ، الحصحاصي ناجح "دبروز"
الطيب بن المختار المؤدب عفيف وآخرون...
هذا الجامع المعمور شهد في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي في سنوات إمامة المرحوم أبو بكر بن عبد المؤمن دروسا مبسّطة في فقه العبادات والمعاملات كان يقدّمها الشيخ عبدلله القلالي عضو جمعية الأوقاف ساهمت دروسه في رفع الأمية الدّينية عن رواد المسجد حسب رواية والدي رحمه لله ،كذلك جمعية الأوقاف
التي تأسست على أنقاض الأحباس سنة 1291 هـ 1874 م كان لها دور كبير في العناية بالمساجد والقائمين عليها ،ويوم المولد نكون نحن الصبيان صباحا ضمن الحاضرين لتناول العصيدة في كراديس حول القصاع الكبيرة ونلاحظ الشراهة عند الشيوخ والكهول فنغرق في الضحك البريء براءة طفولتنا...
ومن أيمة الجمعة الذين تداولوا على منبره المرحوم المربي : الحبيب خضر وهو من خريجي جامع الزيتونة المعمور والمربي الحاج حسن عيساوي الذي ترك مكانه بعد سنوات للمربي الفاضل لسعد زائري وهو إمام معتدل بعيدا عن السّباب والتحريض والنقد اللاذع لمن يختلف معه في الرأي... ولقد شهد جامع سيدي عبد لله بن خود ترميمات وسّعت في فضائه ومازالت تصورات تطويره قائمة.

رمضان لطيفي 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.