أعلان الهيدر

الرئيسية الصّيف كما عشته في الحامة، للكاتب رمضان لطيفي

الصّيف كما عشته في الحامة، للكاتب رمضان لطيفي

الصّيف كما عشته في الحامة
الصّيف كما عشته في الحامة
يتثاءب الصّيف بحرارته فينسحب كسله على أطراف المدينة المتعبة إثر كدح أبنائها في حظائر الدولة وفي الواحة والمزارع وإثر اجتهاد أبنائها في المدارس طيلة أشهر من البذل والتحصيل العلمي والتربوي، هذا الكسل الظرفي يتخلله الانتظار والترقب لنتائج الامتحانات...وفجأة تندلع الزغاريد في دروب الأحياء المتباعدة، فتدبّ الحركة في الشوارع وتخرج الأردية السّوداء من دواليبها فتتلفعها النسوة في طريقهن لمصادر الزغاريد المولولة إثر تسرّب نتائج " السيزيام" أو شهادة الأهلية بالنسبة للزيتونيين،والمناظرتان كانتا في السنين الماضية لهما شأن كبير...ينتصب ميعاد النسوة حول أم التلميذ الناجح بعد أن تكدس حولها هرم من بيض المهنآت،فتدور كؤوس الشاي بالكاكوية والرّوزاطة ومن كان ميسورا يوزّع قوارير القازوز الذي كان متوفرا نظرا لوجود معمل يـُنتج هذا المشروب، والمعمل ينتصب وسط المدينة قرب السّوق المركزي على ملك " عائلة النائلي" وهي عائلة من أصول ليبية،يوزّع المعمل إنتاجه على تجار التفصيل والمقاهي كما يبيع إنتاجه على عين المكان للأفراد، فكنا نحن الأطفال نرتاد المعمل من حين لآخر،وحين نفتح القارورة يظل الغطاء مثبتا في عنق الزّجاجة وهو من الفخّار مثل فناجين أعمدة الهاتف قديما...وعندما أغلق المصنع وعاد أصحابه إلى ليبيا بدأ نوع آخر من القازوز ينتشر لدى العطارين والمقاهي وهو "قازوز النجّار" يُجلب من مدينة قابس عن طرق العربات المجرورة بالبغال ،ثم غزت الأسواق أنواع أخرى مثل "الزمبا" إلى جانب الأنواع الأخرى المعروفة عالميا.
ومن الأسابيع الأولى للعطلة الصيفية نلاحظ وجوها رياّنة في ملابس أنيقة قد غادرت العاصمة تونس والدول الأوروبية جاءت لتمضية العطلة السّنوية إلى جانب أقاربهم ،وارتباط أبناء الحامة بالعاصمة قديم يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر حيث استقرت فروع من العائلات الحوامية في قلب العاصمة، خاصة في الحلفاوين
وسيدي منصور من باب الجديد، وإلى جانب الوجوه الرّيانة هناك وجوه لفحتها الشمس من أثر الحصاد و"الجاروشة" النورج،وعودة "الحصّادة" لا تكون إلا اثر تحقيق الأمن الغذائي بوضع محصول الحبوب داخل المطامير و"الرّواني"، فيرتادون الحمّامات والسّوق في راحة بال فيشترون البضاعة من غلال وخضر ولحوم بعد حرمان ظرفي تحملها القفة الحامية المطرّزة بخيوط الزّينة الملوّنة مثلها مثل المروحة الحامية...ومن الزائرين المحبوبين لدى الأطفال (السيكليست) الصفاقسي الذي يقضي الصيف في الحامة محمّلا بدراجاته الصغيرة يتسوّغ محلا لإصلاح الدّراجات وكراء الدّراجات الصغرى للأطفال الربع ساعة ب 20 مي وكنا نتردّد عليه من حين لآخر للظفر بربع ساعة،وعن طريق دراجاته تعلمنا بعد "تكربصات" قيادة الدّراجة وكان اكتشفا هاما بالنسبة لجيلي...
ومن العادات الحميدة التي كانت تقوم بها بلدية الحامة صيفا رش الطرقات بالماء،مع حلول المساء ينطلق الجرّار من الشارع الرئيسي يجر وراءه صهريجا،والصهريج مُثبت في مؤخرته بخاخة تنتصب أفقيا يسير الجرار ببطء ومن ورائه البُخار والرّذاذ يغمر الطرقات فيمتزج بالهواء الرّطب ورائحة أشجار الكالتوس بأنواعه التي تزيّن جادة طرقات المدينة والطرقات كانت نظيفة رغم إمكانيات البلدية المحدودة، وفريق النظافة بالمنطقة البلدية كان يتوفـّر على عربتين مجرورتين عن طريق الأحمرة وأربع عملة خامسهم (موشي) وهو من يهود الحامة يحمل إعاقة ذهنية،يلازم العربة يوميا أينما حلت... لا تزال ملامحه عالقة بذاكرتي وهو طويل القامة نحيف الجسم نظراته حادة في شيء من الارتباك يرتدي سروالا فضفاضا معقود في حزامه "بالتكة" لا يتكلم كثيرا محمي من طرف عمّال النظافة أينما حل يساعدهم بمحض إرادته في رفع القمامة...وللمدينة حديقتان حديقة الشهداء أين ينتصب تمثال الدغباجي الآن والأخرى حديقة كبيرة مثلثة الشكل رائعة المناظر،وقع الاستغناء عنها عندما شيّدت شركة التنمية المطعم السّياحي،،،والمطعم ذو المعمار الفريد من نوعه في المدينة استبدل نشاطه بمقهى الوداد الرياضي...
في المساء تعج المقاهي بروادها فتزرع الكراسي والطاولات على مسافات شاسعة،
وكنا صغارا نتحاشى ولوج المقاهي والاقتراب منها لأن معلمي المدارس كانوا من روادها وكنا نحترمهم جدا لأن المربي بالنسبة لأجيالنا كان قدوة...وكم نفاجأ عندما نرى معلمينا يتخلون عن البدلة الإفرنجية وربطة العنق ويرتدون الجبة والمظلة أثناء عطلة الصيف وتختفي المسطرة من بين أيديهم فيعوّضها المشموم،وبائع المشموم يطوف من مقهى إلى آخري ومن تجمع بشري إلى آخر،كذلك بائع الجرائد وهو رجل أعرج من أصل جزائري يتأبط الصّحف يطوف بها من مكان إلى آخر والجرائد عادة ما تـُوزع في المساء لأن المواصلات كانت بطيئة ،ولما اختفى الرّجل الجزائري تصدّر المشهد في المدينة المرحوم "زين العابدين" خالد" يطوف بدراجته (عجلتان وكادر) ويعلن عن العنوانين ـ الصباح ـالعمل ـ)هاهي النتائج عندي،،،)
وفي المساء يكثر الإقبال على الفول المدمس من طرف أصحاب المحنة...كذلك بقيا سمك التن المطهية يجلبها ( بلقاسم الج) بكميات كبيرة من معمل مصبرات التـّن بقابس ويبيعها بالتفصيل ورغم رداءتها كانت لذيذة نظرا لسعرها البخس...
وما أن تنتهي التهاني بالنجاح وتتصاعد درجات الحرارة حتى تحزم الأسر أمتعتها استعدادا لمغادرة المدينة في طرقها إلى شاطئ غنوش المقصد الرئيسي للحوامية نظرا لقربه وشعبيته ونظافته قبل أن ينتصب المركب الكيميائي ويدخل شاطئ غنوش تدريجيا دائرة التلوث...تنتصب الأكواخ وبيوت الشعر والأغطية الصوفية التي تتحوّل إلى خيام قرب عين رمال المورد المائي الوحيد العذب بمياهه المنسابة عبر ساقية إلى أن تمتزج بمياه البحر...ويبدأ مرح المصطافين ولعب الكرة بأنواعها وفي المساء يتطوّع الشبان لمساعدة البحارة عند سحب كيس الصيادين فيظفرون بكميات من الحوت خاصة السردينة،وما يفيض عن حاجة الاستهلاك اليومي يقع تجفيفه من طرف ربات البيوت والاحتفاظ به لأيام الشتاء،وما أن تنتهي أسابيع أوسو حتى تزاح الأكواخ وبيوت الشعر وتبدأ العودة.
للتصوف مكانة راسخة لدى الأفراد والمجموعات التي تشكل نسيج المجتمع بالحامة وما أن تشعر بعض العائلات بالاسترخاء أواخر الصّيف حتى تدق أجراس الزيارات لأضرحة الأولياء وتنقسم الزيارات إلى قسمين رئيسيين زيارة الأسر وتقتصر على العائلات وتقترن عادة بختان الأطفال أو استعداد بعض الشبان والشابات لدخول مرحلة الزواج،أما زيارة القبائل فهي بمثابة المهرجان تقسم إلى عدة فقرات،كنحر الإبل وتقسيمها (باياتْ) وإقامة الحضرة ليلا والفروسية مساء...هذا إلى جانب الطرق الصوفية المعروفة كالعيساوية والقادرية والشاذلية وهذه الأخيرة خاصة بفريق الشياب، ومن أشهر الزيارات القبلية زيارة الزمازمة التي تنظم سنويا مع بشائر الخريف للاستسقاء وطلب الغيث... وزيارة سيدي علي بن سالم لقبيلة الشعل بفروعها الخمسة... "الشعلية" لقبيلة فطناسة بفروعها كذلك زيارة "بنغيلوف" التي تحوّلت منذ سنوات إلى مهرجان ثقافي أما زيارة " الغربّة " عادة ما تقترن بحضرة ليلية وفي الصباح يقوم الحاضرون بزيارة "الحوطة" المُسيّجة بسور على يمين مدخل مقبرة الدبدابة وإلى جانب الزوايا والأضرحة الموجودة بالحامة مثل سيدي "عبد الرزاق" في "وادْبُورزيق" وجمْع القصير وحمد بلتو... هناك أضرحة تابعة ترابيا إلى معتمدية مطماطة تزورها العائلات الحامية مثل شمس الدين،سيدي قناو، سيدي بومدين وهذا الأخير اختص القائمون عليه في علاج العقم ألظرفي تقصده العائلات لقطع " التابعة" للحصول على مولود ذكر،وكل من يحمل اسم بومدين إلا وكانت عائلته قد زارت الضريح ونذرت نذرا يكون التزاما من العائلة لتكرار الزّيارة سنويا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.