أعلان الهيدر

الرئيسية الكائن الغريب ... قصة قصيرة ... للكاتب رمضان لطيفي

الكائن الغريب ... قصة قصيرة ... للكاتب رمضان لطيفي

الكائن الغريب ... قصة قصيرة ... للكاتب رمضان لطيفي
قصة قصيرة

... كنست "فتنة" الأفق بنظرها... فشعرت بدوار في رأسها و انقباض في أمعائها، فدخلت غرفة من غرف بيتها القديم المتوارث عبر الأجيال و السنين... استلقت على فراشها وحيدة يلفها فراغ قاتل
و سكون رهيب... لاشيء بجانبها إذا استثنينا دورق ماء و حجر للتيمم... لقد تجاوزت العقد السابع من عمرها فبدت معروقة اليدين، جبهتها مزدحمة بالتجاعيد، أنفها طويل مقوس، فمها أدرد، ظهرها محدودب، وجهها لوحة من الأخاديد و التجاعيد... تململت في فراشها فوجدت نفسها غير قادرة على الحركة، أطلقت العنان لعقيرتها و نادت الجيران لنجدتها لكن نداءها لم يتجاوز حجرتها التي غمرتها ظلمة الليل الدّامس... كرّرت النّداء، فلم يجبها أحد...في اليوم الثالث من مرضها حاولت "فتنة" أن تجلب دورق الماء لتبلّ ريقها و تطفئ ظمأها فهوى الدورق من يدها المرتجفة و تكسّر.
تلمست شظايا الفخار من حولها ثم سحبت يدها إلى جانبها و تنهدت فخرج لسانها يتدلى فوق صدرها و بدأ في التمطط... و اِقترن تمططه بازدياد عرضه و بروز الزّغب من مسامه. و تحوّل الزّغب في سرعة مذهلة إلى شعر طويل كالذي يكسو عادة رقاب الخيل...غادر اللسان زاحفا غرفة النّوم، فلفحته نسمة صيفية جافة، تسلل من تحت الباب الكبير للمنزل فوجد نفسه في زنقة حادة... واصل تمدده فاِعترضه جدار قصير... اِلتصق الجدار و تسلقه... صادفته نافذة مفتوحة فأطل منها إطلالة ثعبان هائج ثم انحدر إلى الدّاخل... وجد تحت النافذة سريرا وفوق السرير رجل و امرأة في لحظة عناق مشوب بعاطفة جيّاشة فذهل الزوج للأمر وانفصل عن زوجته و انزوت الزوجة في ركن من أركان الحجرة في حالة ذهول... عندها وجد اللّسان المجال مفتوح للمرور...
في الطابق الثاني واصل زحفه و تسلق الجدار ثم كرّر ارتماءه فوق السّطوح، و كلمّا اعترضه فاصل بين مسكن و آخر أو هوة عميقة يتوقف عن الزّحف و يتكوّر في شكل حلزوني و يدفع بمقدمته إلى حيث يريد... توقـّف عن الزّحف للحظات عندما ارتطم بموقع لذع طرفه و أحرق شعره المتدلي من مسامه فذعر أفراد العائلة الذين كانوا مجتمعين حول الموقد يترشّفون الشاي و اِنقلبَ مرحهم إلى طقس جنائزي، فرّت الضحكات و غابت النكات و خيّم الوجوم على الوجوه و اختار كل واحد من أفراد العائلة زاوية من زوايا البيت و أعطى بظهره للآخرين!!!
ضاعفت اللذعة من سرعة اللّسان فتحوّل زحفه إلى نطات كنطات الحية الصحراوية..بحث عن منفذ للنزول إلى الطابق السّفلي فلم يجد مخرجا... عندها تكوّر في شكل دوائر فبدت حلقاته الهائلة كتلة من الألدان، ثم ارتمى دفعة واحدة فاحدث وصوله للأرض فرقعة متلاحقة و كأنّ عشرات السّياط هوت دفعة واحدة على قطيع من البهائم... تمطط في الطريق فاِحتله من كل الجوانب... تمدّد فعلقت به الأتربة... واصل زحفه في عنفوان و جموح... وجد في طريقه بابا حديدا مشرعا على مصراعيه... هم بالدّخول فوجد أمامه وردية من العمال محاولة صدّه بخراطيم الماء الحار
و غازات قوارير الإطفاء فلم تفلح...اِقتحم المصنع و تمدّد فوق الدّواليب و سيور البكرات اللّدنة فتوقفت المحركات و الآلات الضخمة، و تعطّل الإنتاج... فبدأ أفراد الوردية يتبادلون السّباب
و الاتهامات، و كل واحد يحاول تبرئة نفسه و إلقاء مسؤولية توقف الإنتاج على عاتق غيره...
و من فجوة داخل المصنع وجد الكائن الغريب منفذا للخروج. و في سرعة وميض البرق اِستطاع أن يحوّل الفجوة إلى ممر كبير لأي شاحنة مهما كان حجمها أن تمر منها بسلام...
******
و في الصباح نهض البعض من السّكان باكرا يريدون الالتحاق بمقرات أعمالهم فلم يفلحوا في ذلك... فالكائن الغريب قد طوّق الحي بأسره و غطى شعره النوافذ فسد المنافذ، و تدلى من الأسطح على الجدران فشكل عشرات الدّوائر العنكبوتية شلّت الحركة... تعطبت أسلاك الهواتف الثابتة وتعطلت أبراج الهواتف المحمولة فاِنقطع الاِتصال نهائيا بين الجيران والمصالح في الدائر الحكومية فتقوقع كل واحد في مكانه غير مبال بما حدث...!
أشرقت الشمس و بعثت بأشعتها الوهّاجة على الحي، فتسلّل نورها عبر الشرانق ودبّت الحرارة مابين الشبكات العنكبوتية... فبدأت الحياة تدبّ بطيئة في بعض الحجرات التي سلِمت من سطوة الكائن الغريب... فُتحت بعض النوافذ و الشرفات، و مع اِرتفاع درجة حرارة الشمس بدأت أطراف الكائن الغريب تتململ على أرضية الشوارع و الأزقة فالأسطح، و بدأ الزّغب في الاحتراق و الشّعر في الاِلتهاب يبعث برائحة نتنة تزكم الأنوف... و مع اِرتفاع درجة الحرارة و تسارع تقـلّص الطّول
و العرض ظل صدر "فتنة" يهتز و يلتقط الهواء بصعوبة! عادت الحركة إلى الطرقات و تجمهر الناس يتابعون تقلص الكائن الغريب و يرصدون زحفه إلى الخلف متضاربين في تكهناتهم لتحديد مكانه و مصدره...
بلغت درجة الحرارة ذروتها، و اِستقرت الشمس في كبد السّماء لبعض الوقت، فاِختفى الكائن الغريب من الحي نهائيا وعادت الحركة عادية، و اِنطلقت الزّغاريد من أفواه النساء، فقال الرّجال :

ـ هذا كابوس أراحنا الله منه...هلل الأطفال و أطلقوا عشرات البالونات في الهواء و بدأ الشبّان و الشّابات في توزيع المرطبات...في الأثناء كانت جنازة "فتنة" خارجة من الحي يتقدمها ابنها الوحيد رفقة مؤدّب موزّع بين الزّندقة و الورع وأربعة من الهامشين و المعاقين ذهنيا رافعين المحمل... قيل أنهم من سلالة الهالكة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.