أعلان الهيدر

الرئيسية سوق الخضر أو المرشي في الحامة . نص للكاتب رمضان لطيفي

سوق الخضر أو المرشي في الحامة . نص للكاتب رمضان لطيفي

سوق الخضر أو  المرشي في الحامة . نص للكاتب رمضان لطيفي
سوق الخضر


للأماكن سحرها وجاذبيتها تظل تدغدغ الوجدان وتشحن الذاكرة من حين لآخر فتطفو أحينا وتغيب مرات عدة في زحمة مشاغل الحياة وتعرجات دروبها ومن هذه الأماكن التي تعود صورها الأولى عند بداياتها تطرق المخيلة بإلحاح أمام تردي وضعها الحالي صورة السوق البلدي" المرشي" وما شهده من عناية في سنواته الأولى...عند تأسيسه شهد سوق الخضر ( المرشي) بالحامة ازدهارا لافتا وكان منظما بحرفية عالية محلاته موزعة حسب كل اختصاص، محلات للقصابين ( الجزارة) على يمين المدخل الرئيسي وباعة الخضر والفواكه على اليسار كما كان يوجد داخله دكان خاص ببيع الزيت بأنواعه وآخر لبيع الخبز أما بائع السّمك الوحيد ظل يعرض بضاعته في السّاحة أمام المدخل والسّاحة بدورها محاطة بسور تـُباع فيها الغلال الموسمية والخضر الورقية تحت إشراف أمين السّوق الذي يحدّد بمعرفته وخبرته أسعار الغلال من بطيخ ودلاع وفول أخضر وجلبانة وتين وعنب وهي غلال بعلية من إنتاج جسور البوادي المتاخمة للمدينة مثل المقسم وشانشو ووادي السّوينية وحالوقة...في المدخل الرئيسي للمرشي سبورة لتحديد الأسعار يقع تحيينها يوميا مراقبة من طرف المجلس البلدي، ويشرف على الخضر والغلال الواردة يوميا مستلزم السّوق لاقتطاع "المكس" هذه البضاعة من إنتاج الفلاحين تمر عبر الميزان الكبير المنتصب حذو المدخل ظل يشرف عليه لعدة سنوات المرحوم حفيظ يحياوي بقامته المديدة وصحته اللافتة ومعرفته لكل الفلاحين وجودة إنتاجهم...كانت الرّوائح تغمر السّوق وساحته خاصة رائحة البطيخ البعلي و"الشمام" وهو نوع من البطيخ الملون في حجم حبة الحنظل،وكانت خضر وغلال وادي النور ووادي بوالرزيق التي تصل السّوق عبر عربات من الخشب نكهتها الخاصة ومذاقها اللذيذ وكان السّر الكامن وراء هذه اللذة اعتماد الفلاحين على بذور تونسية وفلاحة بيولوجية بعيدا عن الأسمدة والأدوية الكيماوية وبمرور الزّمن فقدت تلك الرّوائح الطيبة بانقراض البذور التونسية وتغيير النمط الفلاحي...
كانت صيحات الباعة ذات إيقاعات لا فتة:
عذابْ القايلة يا مشماش ***حق فلوسو ما جاشْ
خروب يا حلو خروبْ *** طماطم والبي خاطمْ
جيلاط برّد يــــا عطشانْ...
ونحن صغار يستوقفنا بائع الجيلاط الذي يفاجئنا حضوره مع حلول الصيف، يقف الرّجل وراء برميل صغير من الخشب tonneau داخله اسطوانة تقف عموديا يفصل بينهما وبين محيط البرميل مكعبات الثلج يُحرّك الرّجل الاسطوانة باستمرار فيتخثر السائل...الكأس طرابلسي بدورو ثم تطوّر الكورنو ب20 مي وكثيرا ما نتردّد عليه في اليوم عدة مرات لنطفئ عطشنا وكانت صيحات (إبراهيم مشمش) وهو يعرض لحومه لا فتة للمارة، ومشمش رجل ضحوك أسمر اللون قوي البنية له قدرة عجيبة على صياغة مفردات تحمل دلالات رمزية (القجمي) تنتشر بين الظرفاء بسرعة ومن جُمله المتداولة "دبغة للبوشنيك" يستعملها عند الكذب لتغطية أمر ما...وللمرحوم عدة طرائف ومنها هذه الطرفة:
خرج ذات ليلة من الغابة في حالة سكر فوجد في طريقه حافلة خط الحامة تونس أبوابها مفتوحة وأضواءها ساطعة بالداخل تستقبل المسافرين فاقتطع تذكرة وجلس على كرسي فأخذه النوم... مع حلول الفجر توقفت الحافلة في آخر محطة بباب عليوة فتساءل من الذي طوّح بي في تونس...غريب أمرك يا برهوم...وفي المساء عاد على متن الحافلة للحامة وكأن شيئا لم يكن...
ويعود بي الحديث عن "المرشي" فتتدافع في الخيال عدة صور لوجوه عرفتها ومنها صورة (عمي حسين موقو) أيقونة السّوق والد رفيق الطفولة والصبا عبد الحميد، وعم حسين رجل دمث الأخلاق يجلس أمام دكانه على كرسي يرتدي بلوزة رمادية يتصفّح جريدته اليومية وهي عادة عنده نادرا ما كنا نراها عند غيره.

و"المرشي" الذي يتوسط المدينة يتحوّل في بعض الأحيان إلى مسرح للهواء الطلق يقام داخله ركح وقتي وتكتري اللجنة الثقافية كراسي تجلبها من مدينة صفاقس لاستقبال الجمهور ،ولمتابعة العروض الفنية من موسيقى وتريّة وعروض مسرحية وفرق الفنون الشعبية هذا الفضاء كان يحلّ المشكل نظرا لعدم وجود قاعات لأن دار الثقافة لم تكن موجودة أصلا،ومن العروض التي حضرتها مسرحية من مدينة صفاقس للمرحوم عليا التونسي وعرض فرقة كوكب الواحة بقابس تحت إدارة رائد المسرح بالجنوب المرحوم الفرجاني منجة,إلى جانب عروض أخرى لم أتمكن من حضورها...ومن رواد المرشي الدائمين (المرحوم المنجي بوطريف) وهو رجل مجذوب يذرع فضاء المرشي جيئة وذهابا يدخل من الباب الشمالي ويخرج من الباب الشرقي في حركة دائمة،وهو ذو ملامح قاسية وشرسة ومن حين لآخر تصدر منه كلمات متضاربة في اللاوعي وأشهر هذه الكلمات ( القضية عند الطرابلسي والطرابلسي أصله يهودي... ) جمل لا تجد لها تفسيرا وكم كنا نفاجأ عندما نجد المنجي في حينا يقوم بزيارة زاوية سيدي عبد القادر فنظل نراقبه من بعيد خوفا من الاقتراب منه. والمجاذيب في مدينة الحامة كانوا متواجدين فيها بصورة غريبة تدعو للتساؤل يتوافدون عليها من أقاليم مختلفة يجدون فيها راحتهم وهم دعائم البركة والرّخاء في هذه المدينة والحوامية يكرمونهم ويعتقدون في كراماتهم وعند وفاة واحد منهم تتكفـّل البلدية بمراسم دفنهم ويكون رئيس البلدية المرحوم جلولي فارس في مقدمة المشيّعين...حماك لله أيتها المدينة الغراء متمنيا لأبنائك من الأجيال الجديدة أن يحافظوا على رصيدك النضالي ناصع البياض.بعيدا عن البلطجة والعبث بالمرفق العمومي.


سوق الخضر

  المرشي في الحامة

  المرشي في الحامة


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.