أعلان الهيدر

الرئيسية المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة (أواخر القرن 19)

المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة (أواخر القرن 19)

المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة
المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة
(أواخر القرن 19)

تقع قرية الرقبة جنوب مدينة تطاوين على مسافة 3 كم على الطّريق المؤدية إلى رماده وهي في الأصل واحة صغيرة كثيرة المياه و النّخيل. اعتنى أهلها بالفلاحة زمنا حتّى صارت أحد المصادر الرّئيسيّة من الخضر لسوق تطاوين.
استقرّ بها منذ ما يقارب القرنين أهل قبيلتي أولاد حامد (1) و أولاد عبد الجليل وسكنوا الغيران المحفورة في الجبال (2) التي تحيط بالقرية ثمّ نزلوا شرقيّ الوادي (3) واستصلحوا الأراضي بين الوادي و سلسلة الجبال و استغلّوا ما وجدوا من آبار كانت على ملك من سبقهم من عروش أولاد دباب و الزّواريّة و بوشناق، وملكوا هذه الأراضي إما عن طريق نظام المغارسة (4) أو بالشّراء.
كان بعض السكّان في البداية شبه رحّل يتنقّلون خريفا للحراثة في العاطوف (5) وربيعا للكلإ ثمّ الحصاد و يعودون صيفا طلبا للماء و الظلّ، ثمّ ما لبثوا أن استوطنوا القرية واستقرّوا بها مبتعدين شيئا فشيئا عن حياة البادية حتّى كثر عدد سكّان القرية و احدثت بها بعض المرافق كالمسجد و الكتاب إلى أن جاءت المدرسة الإبتدائيّة مع الإستعمار الفرنسيّ (1951) ثمّ المعاهد الثّانويّة في عهد قريب.
تحتضن الجبال القرية و تخيط بها من كلّ جانب و لعلّ أشهرها جبل " بوقرنين" وهو جبل ذو قرنين حفر فيه المستعمر الفرنسيّ نفقا يصل بين قرنيه في كلّ واحد منهما باب و في وسط النّفق باب للجنوب و آخر للشّمال و في النّفق مخازن للوقود و الغذاء وملجأ للجنود و منصّات للمدافع، و هو نفق طويل حفره أبناء القرية و أراقوا فيه عرقهم و جزءا كبيرا من صحتهم و كرامتهم مقابل رغيف خبز يسدّون به رمق الجوع، و الثّاني جبل " القليعة " الواقع ناحية الشّرق وهو يتوسّط " مَربَحين " (6) يسمّى الأول مربح " القطاطيس " و يحمل الثّاني " لايحة "(7) سيدي سعد العقيم وهو ثالث إخوته حامد و عبد الجليل انقطع أثره لعدم إنجابه و الثالث جبل الحاج صميده الذي يبدو أنّه حمل اسم مالكه في زمن ما، أما الجبل الرّابع فهو " صدّ الزّواريّة " الذي استقرّ به جزء من قبيلة الحميديّة.
قبل إحداث سوق تطاوين (8) من قبل المستعمر مع أواخر القرن التاسع عشر ، كانت توجد بالجهة أسواق أو مراكز تجاريّة صغيرة : منها ما هو معروف ومازالت آثاره قائمة مثل سوق بني بركة الكائن بأعلى جبل يحمل اسمه يمين الطّريق المؤدية إلى المزطورية على مسافة 4 كم جنوب شرقيّ تطاوين ، و منها ما طواه النّسيان من الذّاكرة بعد أن ذهبت كلّ آثاره المادّيّة مثل سوق الرقبه.
غير أن البعض من الناس مازالوا يذكرون هذا السّوق سواء من أبناء جيلي ممن كانوا يتردّدون على كتّاب القرية لحفظ القرآن الكريم، أو من جيل الشيخ المنصف الخياري النّوري الذى روى لي رحمه الله وهو من الثقات العدول حيث كان يشغل خطّة عدل إشهاد بتطاوين، و الذي كان قريبا من موقع السّوق و من أصحاب القرار فيه.
حين كنّا نتعلّم القرآن الكريم بالزّاوية كنّا نقضي الوقت في غرف صغيرة ضيقة متلاصقة تسمّى الواحدة منها " خلوة " وكان عدد " الخلاوي" كبيرا ، و لم نكن نعرف لهذه المباني سببا و لا نتخيّل لها دورا ، بل كنّا نميل إلى التفكير بأنها كانت أماكن يختلي بها طلاّب العلم للدّرس و القراءة و حفظ القرآن على غرار ما كنّا نسمعه عن خلوة الحاج حمد بوطبّه الذي كان ينسب له الصّلاح و التّقوى إذ يعتقد النّاس أنّه يعلّم في خلوته القرآن أطفال الجنّ و أطفال الإنس في ذات الحين لا يفرّق بينهما غير المجلس و كان من عادة البعض من جيران الخلوة زيارتها قبل كلّ سفر طلبا للسّلامة و النّجاح.
كانت هذه الغرف " الخلاوي" متفيّأ لنا من حرّ الصّيف أو ممرحا لنا في ألعابنا في أوقات فراغنا أو في انتظار المؤدب.
و قد أفادني الشيخ المنصف رحمه الله أن النيّة كانت متّجهة في البداية نحو إحداث سوق محليّة صغيرة بالرقبه تتوافر فيها مختلف المرافق و تكون مكمّلا لسوق بني بركه الذي اشتهر بأنه سوق للحبوب (9) .
و لعلّ لوجود سوق الرقبه ما يبرّره لإعتبارات كثيرة منها وجود المحكمة الشّرعيّة بما فيها من قضاة و مفتين و عدول ، إلى جانب الكثافة السكانية التي تعتبر كثيرة نسبيا بسبب استقرار أهل الرقبه (10) قبل سواهم من قبائل الجهة الذين كان يغلب عليهم نمط البدو الرحّل.
يعود إحداث هذا السوق إلى منتصف القرن التّاسع عشر ولكنه لم يعمّر طويلا حيث وقع العدول عنه نهائيا بحلول المستعمر وإحداث سوق تطاوين في موضعه الحاليّ.
يتمثّل شكل السّوق في مستطيل لا يتجاوز طوله خمسين مترا و عرضه أقلّ من ذلك بقليل ، و يتّجه بابه العريض إلى القبلة ، و أوّل ما يجد الدّاخل مسجدا له بابان يفتح أحدهما جنوبا على ساحة السّوق وأما الباب الثّاني فيفتح غربا ناحية الكتّاب، و يقع الكتّاب جنب المسجد ويتكوّن من غرفتين متلاصقتين توجد الأولى على نفس استقامة المسجد و تنعطف الثّانية نحو الجنوب لتؤلف مع الأولى زاوية قائمة ، تلاصقها في الجهة المقابلة للمدخل مجموعة دكاكين ( ما كنّا نسميه خلاوي) ثم تنعطف الدّكاكين في زاوية قائمة متّجهة نحو الشّرق لتصل الرّكن المقابل حيث المحكمة الشّرعية التي كانت تتألف من غرفتين أمامية وخلفية قد تكون الواحدة قاعة انتظار للمتقاضين بينما الثانية مكتب القاضي ، و يتّصل البناء ببعضه ليجعل ساحة السّوق مستطيلة فيتواصل البناء من المحكمة في اتّجاه المدخل الرّئيسيّ ويعتبر هذا الجزء جناحا إداريّا فهو يحوي مكتب المفتي و مكتب " الباش مفتي" و مكاتب العدول.
حين سألت الشيخ المنصف عمّن بقي في ذاكرته من أسماء القضاة و العدول ذكر لي : القاضي الحبيب بن احمد بن الحاج امحمّد وهو الذي اشتهر فيما يروى على أنه رفض التعامل مع المستعمر بعد مقابلته الأولى مع أحد الضبّاط فطلب من المولى ألاّ يجمعه بعدوّ الدّين مرّة أخرى فقبض الله روحه بعد ثلاثة أيام ، كما يروى أن منصب القضاء عرض بعد وفاة القاضي على كل من المفتي و الباش مفتي فرفضا ذلك لعدم رغبتهما في التّعامل مع المستعمر بينما قبل العدل محمّد الصغيّر المقدميني هذا المنصب و صار بذلك أول قاض للجبل الأبيض في عهد الإستعمار. أما " الباش مفتي" فكان الشّيخ محمّد بن الطّيب السعدي وكان يشغل خطّة المفتي الشيخ محمّد بن الأمين ،من عائلة محمّد، وأما العدول فكانوا كثيرين، منهم أحمد و البشير ابنا القاضي و محمّد الصغيّر المقدميني والحاج الشّريف، من عائلة خليصه، و عبد الرّحيم من عائلة الغرياني، و غيرهم كثير.
ولعلّ أوّل من عمر المكان رجل يدعى الشيخ سيدي أحمد بوبقرة (11) يقال بأنه من المتعبّدين الصّالحين، وإليه ينسب المسجد القائم الآن 'جامع بوبقره ' وهو المسجد الكبير الذي بني جزء كبير منه على أنقاض سوق الرقبه و لا يعرف لهذا الرّجل أصل واضح إلى الآن فمنهم من ينسبه لقبيلة الرّبايع المعروفة بالجنوب التّونسيّ ومنهم من ينسبه إلى عائلة الفيتوري من قبيلة أولاد بوراس من الجليدات وهي عائلة عرفت بالصّلاح ولها جدّ يدعى " سيدي حمد بوراس" كان مزارا لأبناء الرّقبه و لغيرهم إلى عهد قريب وله ضريح ببطن وادي تطاوين على يمين المسافر إلى رماده عند منعطف قبالة ما يسمّى بـ"وكر الكوز" و منهم من يربطه بمزار في أعلى الجبل المطلّ على قصر أولاد سلطان يسمّى سيدي بوبقره...بل ذهب بعضهم إلى اعتباره أحد شيوخ الأباضية الذين فرّوا خلال إحدى الفتن...
و قد أحدثت بجانب السّوق في وقت لاحق زاوية سيدي عبد القادر وكان الشيخ الأمير يقوم على إدارتها و ينظّم حلقات الذّكر فيها و يستقبل الزوّار و يعدّ لهم من عطاياهم للزّاوية ما يطعمهم و قد نالت الزّاوية شهرة وصارت مقصدا للزوّار و قد كان الشّاعر المعروف الشّيح المحسن شاعر الزّاوية و مؤلّف القصائد في مدح شيخها سيدي عبد القادر الجيلاني.وكانت الزّاوية فسيحة تتألف من غرفة رئيسية تعلوها قبّة مرتفعة و على جنبي الغرفة الكبيرة غرفتان صغيرتان و قد امتدت السّاحة الفسيحة أمام البناية يحيط به سور مرتفع تنتصب بزاويته الشمالية الشرقية صومعة مائلة قليلا لم تلبث أن أسقطت مخافة وقوعها ... وقد كان عامل مدنين في ذلك الوقت مسعود العربي أحد أبرز زوّار الزّاوية وإليه يعود تأسيسها وبناؤها، وفي زيارته للزّاوية يقول الشّيخ المحسن (12) متوجّها بالخطاب للشّيخ عبد القادر يحثّه على نصرة أهل الزّاوية الذين قصدهم العامل طلبا للبركة ورغبة في أن يرزقه الله بولد:
ما ريتــــكش ليّ دوله جلول خبارك
عيني عل شبحك مشغولـه مطوّل عل جـالك
و سيوفك ديمه مــصقوله مـاك صيد معارك
أضمن في أولادك لفظوا له العـــامل زارك
في ليلة جـــمعه مقبوله بــايت في دارك
يــــدّك عند الله قريبه طـــالب ذكّارك
يــا عاتي ما تعرف ريبه مـاك وافي عبارك
و قد شهدت فترة الإستعمار ازدهارا كبيرا للطّائفيّة المذهبيّة حتّى اتخذت الظّاهرة شكلا من أشكال الخلاف بين النّاس كلّ ينتصر لمذهبه ، و قد أحدثت على مقربة من زاوية سيدي عبد القادر زاوية سيدي عبد السّلام التي كان يديرها الشيخ الخطيب ، ولكنها كانت أقلّ إشعاعا وشهرة من الزّاوية القادريّة...أما أتباع الشيخ سيدي أحمد التّيجاني فكانوا موجودين غير أنه لا تعرف لهم بالرقبه زاوية .
و قد تبدّل الآن شكل المعمار فتحوّل مكان السّوق إلى مسجد توسّع على مرّ السنين وهو الآن معلم فسيح حديث البناء يحتلّ واجهة الرّبوة التي كان يعلوها السّوق و من حول المسجد مقبرة القرية المعروفة بجبانة بوبقره.
الضّاوي موسى
المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة

المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة

المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة

المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة

المركز الإداري و الثّقافي و التّجاري بالرّقبة

الهوامش :
1- جاء في شجرة النّسب المستخرجة من محكمة ناحية تطاوين ما يلي : " حامد بن ونيس بن علي بن محمد (الوذّان) بن عبد الله بوجليده بن امحمّد السّايح بن موسى الورغي (أو الورغني)
2- يحدّ القرية من الشّرق جبلا بوقرنين و القليعة و من الغرب جبل الحاج اصميده و من الجنوب صدّ الزّواريّة المتّصل بجبل بني بركه أين يوجد قصر بني بركه .
3- عرف هذا الوادي بواد فسّي و ينطلق من جبال راس الواد قرب الدويرات حيث تتجمّع مياه الأمطار و ينحدر نحو الشّمال مرورا بتطاوين شاقا طريقه بين مدنين و بنقردان في اتجاه البحر
4- المغراسة طريقة معروفة تتمثّل في اسناد قطعة أرض لمن يحييها مقابل تملّه بنصفها بعد مد’ من الزّمن يحدّدها عقد المغارسة فإذا لم يقع إحياؤها عادت لأصحابها كاملة.
5- تسمّى أراضي العاطوف تلك الممتدّة من منطقة دكوك (التي تبعد حوالي 40كم جنوب تطاوين ) في اتجاه الشرق إلى الحدود الليبية .
6 - المربح في اللهجة العاميّة فجوة بين جبلين.
7- اللايحة : بناية قليلة الإرتفاع و غير مسقوفة.
8 - تمّ إحداث سوق تطاوين سنة 1887 حيث كانت البداية بثكنة الجيش ثمّ جاء بعدها السّوق و بقيّة المرافق.
9- اشتهر سوق بني بركة في الجهة بأنه مخزن للحبوب حتّى أنّ أحد مكاييل الحبوب المعروفة بالجهة صارت تعرف بـ"ويبه بركاوي" على غرار "الويبه التّونسي" و " الويبه الباجي" و غيرها ...
10- توجد بالرقبه إلى جانب القبيلتين الكبيرتن مجموعات أخرى من السكان مثل الزوارية و المقابله...
11- عثر على وثائق تفيد أنّ أداء اليمين بين المتنازعين كان يقع بزاوية سيدي أحمد بوبقره بالرقبه.

12- انظر ' ديوان الشيخ المحسن ' مارس 2002 مطبعة تونس قرطاج/تونس.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.