أعلان الهيدر

الرئيسية الفكر الإصلاحي و المشترك بين الحداد والشّابي

الفكر الإصلاحي و المشترك بين الحداد والشّابي

الفكر الإصلاحي و المشترك بين الحداد والشّابي
الفكر الإصلاحي و المشترك بين الحداد والشّابي
 
أبو القاسم الشّابي والطاهر الحداد هما رائدان من روّاد الحركة الثقافية التونسية في فترة ما بين الحربين ومثقفان أبهرا الأجيال المتعاقبة بالرؤية الثاقبة لماهية الفكر والأدب والفن فلكل منهما بصمته الخاصة والبارزة فيما كتب وأبدع من شعر ونثر تنظيرا وممارسة.هذا الثنائي المُميز شكل علامة مضيئة في الثقافة الوطنية واحترقا قربانا على عتبة حرية الكلمة في ريعان الشباب وغزارة العطاء، عاش الثنائي مرارة الغربة الفكرية في أحلك مظاهرها فالحداد استهدفته حملة التكفير والطعن في عقيدته اثر نشره لكتاب" امرأتنا في الشريعة والمجتمع" والشّابي استهدفته حملة صحفية عنيفة اثر إلقائه لمحاضرته" الخيال الشعري عند العرب" والرائدان هما خرّيجان من منارة علمية واحدة جامع الزيتونة المعمور متشبعان بالفكر الإصلاحي الذي سبقهما مطلعان على الحركة الأدبية في تونس وخارجها خاصة ما أنتجته مدرسة الديوان من شعر ونقد، والحركة الرّومنطيقية في المهجر من إبداعات مبتكرة، فالرّجلان يحملان نفس الطموح والرّغبة المُلحة للإصلاح والرّقي بالمجتمع التونسي الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار والجهل والأميّة والفقر وشتى مظاهر التّخلف،اِلتقى الرّجلان في حب الوطن فتجسّد هذا الحب المُرهف في قصائد غاية في الرّقة والعذوبة والشعر الوطني الفياّض ، فالشابي يخاطب وطنه :

الفكر الإصلاحي و المشترك بين الحداد والشّابي

أنا يا تونس الجميلة في لج الهوى قد سبحت أي سباحة
شِرعتي حبّك العميق وإني قد تـذوقتُ مُره وقـراحــــه
هذه المرارة التي شعر بها الشّابي نجد صداها لدى صديقه الحداد :

أ تونس عندي في هواك تــولّع وأنت منى نفسي عليك تــقطـعُ
نسيتُ بك الدنيا وعيشي وراحتي أريد لك الحُسنى وخصمك يمنع
وكل رائد من رواد الإصلاح همّه الوحيد النهوض بأمته...وكل شاعر أصيل
وعميق الرؤيا والإحساس ينحت تجربته من ذاته ومعاناة شعبه وفي الأبيات
التالية يتساءل الشّابي عن الإحساس والطموح المفقودين :
أين يا شعب قلبك الخافق الحسّاس أيــن الطمـــوح والأحـــــــــــلام
أين عزم الحياة؟ لا شـــــــيء إلا الموت والصمت والأسى والظلام
عمُر ميت وقلب خـــــــــــــــواء ودم لا تــثـيـره الأحــــــــــــــلام
وحياة تنام في ظلمة الـــــــوادي وتـنمو من فوقـها الأوهـــــــام
ولا يختلف الحدّاد عن الشّابي فيتوجّه إلى الشّعب مخاطبا :
كم أنتَ يا شعبُ مرزوءا بطائفة تدوسُ في مشتهاها الحقَ والبشرا
فتعلن الدّين والتقوى مراوغــة وتـعـبد الـمال مهما قـلّ أو كـثــرا
وترتمي كالشّجا في حلق كلّ فتى يسعى إلى الحق أو يبتغيه منتصرا
ترمي به سـواد الـناس قائـلــة هـذا الذي طعن الإسلام أو كفــرا
يشير الحداد في هذه الأبيات إلى المتظاهرين بالتقوى والتـّدين فيعرّي حبهم للمال ويكشف مراوغاتهم وتضليلهم لعامة الناس وتأليبهم على كل شريف يسعى لتنوير مجتمعه وتعبيد السّبيل أمامه للخروج من دائرة التّخلف فيكشف الحداد سلاحهم المرفوع في وجه كل من يسلط الضوء على الزّوايا المظلمة في مجتمعه، هذا السّلاح هو شعار الكفر والإلحاد وهو سلاح تقليدي مازال للأسف قائما في بلادنا إلى اليوم في حين أن الإسلام الحق في جوهره هو اجتهاد دائم و إمعان للعقل وعمل دؤوب لمحاربة السّذاجة والنظرة السّطحية للدين التي كرّست الجمود والتواكل والارتماء في أحظان الزّوايا في استلاب قاتل فيقول الشابي :

فقد فـتّ في زند الدّيانة مـعـشــر أثاروا على الإسلام من قد يُهاجم
فوا الحق، ما هذي الزّوايا وأهلها سوى مصنع فيه تصاغ السّخائم
وفي نفس السّياق الشّعري والنّسق الفكري يقول الحداد :

فنطيل اللحى ونشدو بذكر الله فــــــــي عـِمّةٍ وطيلـــسان
***
ولنا الدّين بالوظائف والأحْبــــــــــــــــــاس يُجري أرزاقنا كل آن

اِثر عرض وتحليل ما تقدّم من أشعار الرّجلين ظهرت مواقف السّواد الأعظم من الشيوخ والسّياسيين رافضة للأفكار الجديدة والأصوات الجريئة المنادية بركوب موجة الإصلاح والتحديث، مواقف باهتة مترجرجة وهذا السّلوك السّلبي المقصود برز نتيجة الخوف من تحوّل النمط الاجتماعي السّاكن والسّائد منذ قرون خلت، والخوف على مراكز النفوذ وما لها من وجاهة ومكاسب مادية، ومعظم الرّافضين كانوا يردّدون أن تقدّم المسلمين يمكن أن يحدث انطلاقا من تراكم التراث الإسلامي بالاعتماد على النقل لا بإمعان العقل وهذا وجه التباين بين الفريقين فيقول الحداد :
يقولون للإسلام نبغي سيـــــادة وأعـمالهم تهوي به مـتــناثـــــرا
ويدلون بالاصطلاح قولا مزوّرا ولكنهم بالفعل سدّوا المعابـــــرا
وكيف يسود المسلمون بأرضهم وهم يجهلون المُرتقى والمصائرا

هذا الموقف السّاخر والسؤال الحارق يقابله موقف آخر صارخ محتج عند الشاعر
الفذ أبو القاسم الشّابي في قصيدته " يا حماة الدين"

سكتم حماة الدين سكتة واجم ونمتم بملء الجفن والسّيل داهم
سكتم وقد شمتم ظلاما غصونه عــلائم كفر ثائر ومــــــــعالــم
مواكب إلحادٍ وراء سكوتكم تـضجّ وها أن الفضاء مـــــآتـــم
يشير الشّاعر في هذه القصيدة إلى المواكب التي أقيمت بمناسبة انعقاد المؤتمر الأفخرستي على مرآي ومسمع من حماة الدين المد جنين تحت جناح سلطة هي بدورها مغلوبة على أمرها أمام هيمنة الحماية الفرنسية.كانت الأحداث الوطنية المتسارعة الهم المشترك بين الشّاعرين يعيشانها بكل جوارحهما ممارسة ميدانية ومشاعر فياضة انعكست على وجدانهما فتحوّلت على الورق إبداعا شعريا ونصوصا نثرية بقيت شاهدة على مرحلة هامة من تاريخ تونس واثر محاكمة الرائد النقابي محمد علي الحامي ورفاقه ألف الطاهر الحداد كتابه
" العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" سجّل فيه أدق تفاصيل تاريخ الحركة النقابية الرائدة في العالم العربي وإفريقيا...وتحرك قلم أبي القاسم الشابي فكتب قصيدته الرائعة " تونس الجميلة "أشار فيها إشارة ذكية لملابسات تلك المحاكمة الجائرة وما حفّ برائدها ورفاقه من اضطهاد :

كلما قــام في البــلاد خــطيبٌ مُوقظ شعبه يريدُ صلاحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك شائك يرُدّ جـماحـه
أخمدوا صوته الالاهي بالعَسف أماتوا صداحَهُ ونواحــــه

ولمّا كان الشعب التونسي مقيدا مكبلا بشتى مظاهر التخلف والاستلاب ما انفكت أصوات النُخب المثقفة تحاول بث الوعي عبر المنابر السياسية والثقافية والصحف السيّارة فظهر هذا الحماس في الكتابات التي واكبت تلك المرحلة وكان في مقدمة الدّاعين لشحذ الهمم الشاعران الشابي والحداد وهذا الأخير يقول في قصيد بعنوان"
العلوم" :
إذا ما أردنا أن ننال الرّغائبا فليس لنا غير العلوم مطالبا
بها بدّد الغرب الضلال وجيشه وقاد بها نحو الحياة النّجائبا
بها ذلل الغرب السماء لعزمه وعمّر أرجاء البحار مراكبا
وغاص بها في الأرض يطلب سرّها وشاد بها ملكا يشق السّحائبا
وساد على الدّنيا وسخّر أهلها عبيدا رأوا فيه عظيما وغالبا

ولقد كان هاجس الثنائي الألمعي في ظل الجهل الذي كان مهيمنا على العقول الدعوة للعلم و المعرفةللمسك بناصية التقدم والخروج من التبعية تحت هيمنة المستعمر، وقصيدة الشابي " سر النهوض" تتوفـّر على روح ثائرة متوثبة لكسر الأغلال والقيود موجهة للشعب الذي طالما خاطبه في قصائده الهامسة حينا والسّاخطة حينا آخر :
لا ينهض الشعب إلا حين يدفعه عزم الحياة إذا ما استيقظت فيه
والحَبُ يخترق الغبراء مندفـعا إلى السماء إذا هـبّت تناديـــه
والقـيد يألفه الأموات ما لبثوا أمـّــا الحياة فــيُبليها وتـُبلــــيه
اصطدمت الأفكار المستنيرة الدّاعية للإصلاح بالجمود والجحود والرّفض فانعكسذلك على مزاج الشاعرين فأصيبا بالإحباط واليأسوالغربة الفكرية فعبّرت قصائدهم على ذلك أصدق تعبير فهذا الحداد يقول :
وطـن يعـبـد الخمول شـــعـارا أنـا أحــيا به حـياة الغريب
هو الشّعب يا بدر يهوى ظلاما ينضوي فيه للفناء الرّهيب
هذا الفناء الرّهيب الذي لف الشعب وكبّله فأقعده عن صنع مبادرة الخروج من دائرة الخمول نجد صداه لدى الشابي نقمة على نفوس بائسة ظهرت كأشباح في قصيدته
" الدنيا الجديدة" فيقول :
وأرى نفوسا من دخان جـامـدٍ ميْتٍ كأشباح، وراء ضباب
موتى،نسوا شوق الحياة وعزمها وتحرّكوا كتحرّك الأنصاب
وخبا بهم لهب الوجود، فمَا بقوا إلا كمحترق من الأخـشـاب
بعد حياة فكرية صاخبة رجّت ثوابت المجتمع رجات مذهلة وطرحت بعمق أسئلة
حارقة حول المرأة والعمّال ومناهج التعليم والتربية انكفأ الحداد على ذاته يعيش أيامه مرارة مستحضرا في الأبيات التالية الرّجال الأفذاذ الذين سبقوه في محنة التكفير :
حطمُوا الفكر بالفـقيه ونادوا بالرّزايا لصادق التـّفكير
طوّقوا مالكا وساموا ابن رشد سوم خسف بمحنة التكفير
وفي قصيدة " أملي " يناجي الحداد ربه ويبثه لواعج قلبه المترع بالإيمان الصادق
الذي ارتقى إلى المراتب العليا مثله مثل المتصوفة الكبار :

أيـا غـائبا عن ناظري بعـيـــدا لأنت بقلبي قد سكنت وحيدا
أناجي بك الأشواق وهي تهزّني إليك فأحي في هواك سـعـيدا
فأنت سنى روحي وأنت يقينها وخمرة أنسي إذا بقيت وحيدا
عذابي وبؤسي في سبيلك جنّة أغني بها شعري إليك نشــيدا

تمتزج مناخات الطبيعة بالبعد الصوفي الخالص في هذه الأبيات وتنسحب على كامل القصيدة وكأن هذا المقطع يُحيلنا إلى شهيد آخر من شهداء الفكر آلا وهو الحسين بن منصور الحلاج وهو يناجي ربه :
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مـقـرون بأنــفـاســــــــــي
ولا خـلوت إلى قــوم أحــدثهم إلا وأنت حديثي بين جـــلاســـــــــي
ولا ذكرتك محزونا ولا فـرحـا إلا وأنت بقلبي بين وســـواســـــــي
ولا قدِرت على الإتيان جئتكم سعيا على الوجه أو مشيا على الرّأس

أتخنت الجراح الطاهر الحداد وصديقه الشابي فعجّلت برحيلهما وهما في ريعان الشباب فكانت النهاية مأساوية وكأن الشابي قد استشرف نهايته قبل عام من وفاته
فكتب سنة 1933 قصيدته " الصباح الجديد" يقول في مقطع من مقاطعها :
من وراء الظلام وهدير الميــاه
قد دعاني الصباح وربيع الحيــاة
ياله من دعـاء هز قلبي صداه
لم يعد لي بقـاء فوق هذي البقاع
***
الوداع الوداع ! يا جبال الهموم
انتهى الرجلان وبقيت أفكارهما منارة إشعاع فكري وواحة إبداع وارفة الظلال ساهمت في وضع لبنة في أسس مدرسة الفكر الإصلاحي والإبداع الأدبي في تونس تواصل مع جيل الاستقلال والذي تلاه من جيل الرّواد المؤسس للجامعة التونسية والحياة الثقافية في بلادنا.

المراجع :
-         ديوان أغاني الحياة للشابي

-         ديوان الطاهر الحداد

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.