أعلان الهيدر

الرئيسية يقظة بين الاختفاء والظهور ، قصة قصيرة

يقظة بين الاختفاء والظهور ، قصة قصيرة

يقظة بين الاختفاء والظهور ، قصة قصيرة
يقظة بين الاختفاء والظهور ، قصة قصيرة  
للكاتب رمضان لطيفي   
     
نقطة سوداء في حجم قطعة نقدية تتوسّط جبهته فظهرت كأنها من أثر السجود عندما رأيته أول مرة اثر عودتي من العاصمة إلى البلد قلت: باب التوبة مفتوح لمن يطرقه...قد يكون الاستهتار والكبرياء الذي عرف بهما "يقظة " غادرا سلوكه بدون رجعة وحين دخل المقهى صاحب الجبهة المنقطة في ارتباك وخطوات سريعة سألت مرافقي:
ـ هل طرقت الهداية قلب هذا المغرور الذي كنا نتحاشى الاحتكاك به في كل مكان لأنه كما تعرف وشاية متنقلة في المدينة...فقال لي مرافقي: تلك هي الأيام وعجلة الزّمن...كل شيء تغير بعد الثورة... كل من كان يصول ويجول باسم النظام السّابق أجبر على اختيار الظل في ترقب مبهم...لمّا بلغت الاحتجاجات ذروتها تحوّلت المسيرات إلى ميدان لرمي الحجارة والملوتوف تقابلها القنابل المسيلة للدموع في شوارع المدينة...شُغلت البنادق فاختلط الرّصاص الحي بالخرطوش المطاطي فسقط الضحايا والجرحى وخيّم الحزن والوجوم على الوجوه والانفعال والارتجال على المواقف، عاشت البلاد على فوهة بركان لعدة أيام تحت ضغط الشارع والحجارة .. انسحبت قوات الأمن في ارتباك، فكان الفراغ سيد الموقف، خرج المُهمّشون من تحت الأرض لاصطياد الفرص وخرج الفتوه محاولين إعادة الحياة إلى شرايين المدينة فوقف البعض منهم في وجه النشّالين وانخرط قلة في الابتزاز...اقتحم العديد من الصبيان والشبان إلى المراكز الأمنية المخلوعة أبوابها فأتلفوا محتوياتها.. . تسرّبت قائمات المخبرين فتداولتها الأيدي ثم تم نسخها فتوزّعت على الأحياء فنشبت المعارك في الفضاء الأزرق وحمي وطيسها في الفيسبوك فتدفـّقت صور قديمة لاجتماعات شُعب التجمع لتحرج المنخرطين وتربك العلاقات بين النّاس فتصاعد الاحتقان والابتذال والمراهقة السياسية...بدأت الكتابة على الجدران:
" طلائع الثوار قادمون"
"هنا يقيم صبّابْ"
تسرّبت الأوراق من تحت عتبات المنازل...تـُركت قائمات المخبرين في متناول الأيدي وكأنها نتجت عن خطة مدبّرة ومقصودة لإحداث الفتنة في البلاد...حاول الحكماء من المثقفين والنقابيين إتلاف القائمات ومنعها من التداول داعين عبر مضخم الصوت:
لا للفتنة...لا للانتقام."
تراجع منسوب الاحتقان شيئا فشيئا وحل الجيش الوطني يحرس مقرات السّيادة والمرافق العمومية...
استغرق جليسي في سرد تداعياته فأشرتُ إليه متسائلا:
ـ عن ماذا تحكي يا صديقي ؟ ...كل ما سَرَدتَ من أحداث عاشته البلاد من شمالها إلى جنوبها...أنا سألتك عن البقعة السّوداء التي توسطت جبهة "يقظة " متى ظهرت؟
ـ صبرا يا صديقي مازلتُ في محيط البقعة السّوداء لم أدخل عمقها لأن في العمق يكمن السّر ...هناك ريشة صقلها تقلب الزّمن شكلت الدائرة السّوداء بعناية فظهرت وكأنها من أثر السّجود...أعود بك إلى النقطة و بدايتها، لازمَ من وردتْ أسماؤهم في قائمات المخبرين بيوتهم، منهم من اختفى عن الأنظار واستبدل مقر إقامته خوفا على سلامته ومنهم " يقظة" هذا الثعلب الماكر، وأنت تعرف ماضيه وبطشه وكرهه لمن يعارض النظام...فكم من يساري تسبّب له في قطع معاشه وكم من " إسلامي" ضبطه" يقظة" يكتب على الجدران فجرا في شعارات مناوئة للنظام، في اليوم الموالي يجد المخربش على الجدران تهمة الانتماء تنتظره مع أصفادها...ولمّا شعر "يقظة" بالإهانة تلاحقه من كل العيون التي كانت مُسلطة عليه اختفى عن الأنظار لعدة أسابيع فتعدّدت في شأنه التخمينات،فمنهم من ذكر أن " يقظة" يمّم وجهه شطر البادية يعيش مع الرّعاة في ضيعة مهجورة ريثما تمر موجة الاحتقان الشعبي فتمحى من الذاكرة القائمات الملعونة...في حين قال آخر : اختار "يقظة" أن يسجن نفسه في بيته حتى تمر العاصفة مِما اضطر زوجته للخروج بمفردها لقضاء شؤون بيتها وأبنائها في السّوق، وأكد من أورد الخبر أن الإقامة في البيت ثابتة ومؤكدة معللا ذلك بمشاهدته الزّوجة تشتري علب السّجائر لزوجها من باعة الانتصاب الفوضوي،وعكس الإقامة في البيت أكد شبّانُ لجان الأحياء الذين كانوا يحرسون
الشوارع ليلا اختفاء " يقظة" من المدينة منذ أن تسرّبت ورقة المخبرين تحت عتبة بيته، لكن الأمر المُريب ما أورده شباب الحراسة حين قالوا:
ـ عند مرورنا من أمام مقر إقامة " يقظة" ليلا نجد الأضواء مطفأة والحركة ساكنة إلا أن الرّوائح الكريهة ظلت تنبعث من وراء السّور وكأن قدرا فوق الموقد احترق لتوّه بزيته وثومه وبصله واخترقت رائحته الأنوف فعكـّرت تلك الرّائحة الأمزجة لعدة أيام...ولمّا ظهرت صور المرشحين لانتخابات المجلس التأسيسي على جدران المدينة إلى جانب بيانات الأحزاب وشعاراتهم ظهر" يقظة" من جديد يرتدي القميص الأفغاني تعلو وجهه لحية كثة مُهملة وحذاء رياضيا فبرزت البقعة السّوداء لأول مرة تتوسّط الجبهة وكأنها من أثر السّجود،وظهرت بين يدي " يقظة" حزمة من الأوراق يطوف بها من مكان إلى آخر يدعو الناس للتوقيع على العريضة... وقف أمام حديقة عمومية فاِلتفـّت حوله مجموعة من الفضوليين معظمهم من الكهول والشبان وبدأت تعليقاتهم:
ـ عاد الصّباب لسلف نشاطه...
ـ الله ينصر من اصبحْ...
ــ الحرباء غيّرت جلدها...
ـ تبا للبقع السّوداء التي تكاثرت هذه الأيام فوق الجباه...؟
تجاهل" يقظة" الأصوات المناوئة وباشر مهمته غير عابئ بالتعاليق...
ـ يا جماعة بين يدي عريضة مهمّة ومصيرية تحملها أيادٍ بريئة وضمائر تخاف الله هذه العريضة تدور في كامل تراب الجمهورية للتوقيع عليها من طرف كل غيور على دينه...نحن مسلمون وهويتنا في خطر... لقد حضرتُ اعتصام القصبة 2 ولاحظتُ هجوما كاسحا على هويتنا...رأيت الشباب المائع يكتسح ساحة القصبة إناثا وذكورا يردّدون شعارات تضرب هويتنا في الصميم...شباب مُخنث يريدون السّيطرة على المشهد السّياسي ...لا تصوتوا للعلمانيين الذين يرفعون شعار فصل الدين عن الدولة ...هوية البلاد في خطر لا تنتخبوا الكفرة الفجرة... العريضة على ذمتكم تنتظر توقيعكم...
كانت رائحة الثوم تنبعث من "يقظة" مما اضطر الحاضرين للانفضاض من حوله، كل واحد وضع سبابته وإبهامه سادا منخريه منصرفا لقضاء مآربه.
تداول الخطباء على قاعة الاجتماعات في المدينة حسب جدول قائمات الأحزاب المشكلة حديثا وظل " يقظة" طيلة الحملة الانتخابية يتابع الاجتماعات ويقاطع الخطباء رافعا عريضته في وجه كل من يشتم منه الاستخفاف من محتوى العريضة، وفي بعض الأحيان يدخل في سباب مباشر مع المشرفين على تنظيم الاجتماع ثم يخرج محدثا إزعاجا للحاضرين .
صادف قبل انتهاء الحملة الانتخابية يوم جمعة فاستعد " يقظة " منذ الصّباح الباكر لكسب آخر جولة في المسجد لحشد أكثر ما يمكن من التوقيعات لتُحظى عريضته بقوة الحُجة، استعد لذلك بأن حمل معه عدّة نسخ من الأوراق وكانت مقسّمة حسب الجداول...الاسم ـ اللقب ـ رقم بطاقة التعريف ـ ثم الإمضاء...
بالغ يومها في فرك الثوم على البقعة السّوداء التي توسّطت جبهته وتعطر بعطر عطن وخرج... كان المسجد مكتظا بالمصلين عندما دخل " يقظة" متخطيا الرّقاب ليضمن مكانه في الصف الأمامي حذو المنبر وقبل أن يُرفع الآذان دخل الإمام في طريقه كعادته ليعتلي المنبر توقف قبل أن يصعد فأحس بدوار ورجفة اقشعر لها جسده، في لحظات تحوّل الدّوار إلى صداع نصفي استجمع الإمام قواه واتكأ على خشب المنبر وخاطب الحاضرين:
ـ إخواني عندما فتحتُ حجرة الإمامة وهمَمت بالخروج لفحتني روائح كريهة تغمر فضاء المسجد هي مزيج من رائحة البصل والثوم والجوارب العطنة...بكل لطف أطلب ممن يحمل هذه الرّوائح أن يعيد وضوءه...الماء متوفـّر مجانا ودورة المياه قريبة منا فأنا معوّل على تفهمكم ولن أبدأ الخطبة اليوم إلا بحضوركم... سأنتظركم لمدة عشر دقائق...
تحركت الرّقاب يمنة ويسرة في كل الاتجاهات في حركة صامتة احتراما للمقام، خرج قلة من الرّجال بهدوء قصد إعادة الوضوء دون أن يُثروا الانتباه...ولمّا وقف " يقظة" تبعثرت أوراقه فسُلطت عليه الأنظار وهو يتخطى الرّقاب خارجا... طافت قوارير العطر ترُشّ أكف المصلين لعدة دقائق من طرف المتطوعين وأشعلت أعواد العنبر في الزوايا المُخصّصة لها وعاد التوازن للإمام فاعتلى المنبر وانطلق صوت المؤذن عذبا، إثرها شرع الإمام في خطبته وارتجل جانبا منها خصّصه لنظافة السّلوك والأجساد والألسن في حين سلك" يقظة" طريق بيته واضعا سبّابته من حين لآخر فوق البقعة السّوداء التي توسّطت الجبهة وهو يقول :

أليست هذه من أثر السّجود ... ؟ !.أليست هذه من أثر السّجود...

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.