أعلان الهيدر

الرئيسية اِنعتاق بغل ، قصة قصيرة

اِنعتاق بغل ، قصة قصيرة

اِنعتاق بغل ، قصة قصيرة
في إسطبل أحد المزارعين الأثرياء جمعت الصدفة حصانا أصيلا وبغلا يستعمله المزارع لمعصرة الزيتون...وفي ليلة هادئة مقمرة اِلتفت الحصان حول أطرافه فوجد البغل مقيدا بسلسلة من حديد ونظر إلى قوائمه فوجدها مجردة من القيود فشعر بالنخوة والاعتزاز وقاده الغرور إلى محاورة جاره البغل قصد اِستفزازه .
اِنعتاق بغل ، قصة قصيرة


مسكين أنت أيها البغل أفنيت عمرك بين جدران المعصرة تُلهب ظهرك سياط "المعاصري" مقتنعا بمخلاة من الشعير أو العلف المركب تتناولها بعد طوافك حول مدار المعصرة طوال ساعات النهار مغمض العينين وأنت تدهس حبات الزيتون بصخرة اسطوانية...آه لو تعلم ... !تلك الحبات تتحول إلى شهد مصفى والشهد يتحول إلى ذهب رنان في جيوب المعاصري... آه لقد نسيت فالمعاصري بدوره يحول الأموال إلى جيب المزارع مالكك الأصلي وهذا الأخير بخرجة صباحية يمكنه أن يشتري بغلا آخر من سوق البغال يستبدلك به إن ثقلت قوائمك وهدّك التعب وأربكك الهزال فيرمي بك شبحا هرما تنهشك الذئاب والكلاب السائبة أو يبيعك لإدارة حديقة الحيوانات تقدمك وجبة رديئة للسباع الرّابضة وراء القضبان ...أنتم فصيلة محتقرة مهانة ، فالغبي من بني الإنسان ينعت بالبغل...والسخيف ينعت بالبغل ...والبدين ينعت بالبغل ...والكسول ينعت بالبغل وكل الصفات المهينة رمزها البغل وكل الأشغال الشاقة من نصيب البغل، فالفلاح يستعمل البغال والجنود في سالف الأزمان اِستعملوا البغال وتجار الخردة من قوارير وأواني نحاسية قديمة يستعملون البغال...أما فصيلة الخيول فمعقود على نواصيها الخير أقسم بها مبدع الكائنات في كتابه العزيز فقال :
ـ "والعاديات ضبحا فالموغرات صبحا" والخيول يركبها الأمير والوزير ويمتطيها الموسر والوجيه ،تطوف البرية حرة طليقة وتعود إلى مرابضها في أنفة وإباء، تتغذى من الجيد الرّفيع وتزين سروجها بالذهب والفضة وتّطرز بالحرير، والخيول لا تقبل الذل والهوان ولا تعرف المسكنة والمذلة...سلالة البغال عقيمة لا تعرف لذة الخلود والاستمرارية والإنجاب وحنان الأمومة وهي كائنات تكسوها طبقات من الشحم واللحم جاهزة لتقبل السياط في استسلام...
تحرك البغل وضرب الأرض بحافريه ثم قال :
ـ يا جاري وأنيس وحدتي، صباحا يأتي رجل يفك وثاقي ويقودني من حبل اللجام ،ثم يضع عصابة على عيني وبعد ذلك أبدأ رحلتي اليومية وهي رحلة طويلة شاقة أقطع خلالها أميالا وأميالا دون أن أرى معالم الطريق، إلا أن أذني تظل وقت الرّحلة تحت سيطرة أزيز حاد وفرقعة رتيبة...لا أخفي عليك يا جاري، كثيرا ما أشعر بالتّعب أثناء الرّحلة وما أن أهم بالوقوف لآخذ قليلا من الرّاحة حتى يلهبني السّوط فأتحامل على نفسي المنكسرة وأكمل المشوار...
حرّك الحصان رقبته ورفع رأسه في كبرياء وشموخ إلى أعلى كعادته :
ـ رحلتك لا تتجاوز بعض الأمتار، طوال الوقت تظل تدور حول نفسك أسير تراوح رتيب مُملّ حول مدار تدهس حبات الزيتون لتتحوّل إلى سائل باهظ الثمن...
نكس البغل رأسه ولاذ بالصّمت قليلا شعورا منه بعقدة النقص المدمّرة وحرّك واحدة من قوائمه الأمامية ثم قال :
ـ تلك مشيئة الله يا جاري وقدر سلالة البغال أن تحي حياة الذل والعبودية... !
ضرب الحصان الأرض بقوّة كأنه يعبّر عن احتجاج في داخله :
ـ لا ليست مشيئة الله بل مشيئة مخلوقاته فوق الأرض، بإمكانك أن تبدأ التمرّد وتتزعم البغال فتصبح رمزا من رموز الحرّية وعلما من أعلام الخلود...
لاذ الحصان بالصمت وأخلد إلى الرّاحة والنوم بعد أن استفز جاره في حين بقي البغل نهبا للتساؤلات والمقارنات بين الواقع الذي يعيشه ويُمارس عليه يوميا وبين درب الحرّية البعيد والمحاط بالأشواك والعقبات...
* * *
صاحت الديكة دفعة واحدة داخل الأحياء وفوق السّطوح وجاءت بشائر الفجر تحمل نسمة خريفية باردة وبدأت حركة العمال والفلاحين تدبّ ،وكالعادة جاء عامل المعصرة في الصباح الباكر يفك وثاق البغل فأبى البغل وتمرّد وأظهر نفورا وجموحا وسكنته جذوة الرفض والتحدي، فاِشتد غضب عامل المعصرة وصلفه فانهال على الظهر يلهبه ضربا مبرحا، فلم يحرك البغل ساكنا ولم يرهبه السّوط رغم قسوة وقعه على جلده،وأمام التعنّت والعصيان اِضطرّ عامل المعصرة لطلب المساعدة من العمال لفك وثاق البغل الحرون. تجمّع العمال ومسكوا البغل من قوائمه الأربعة، فأبدى في خبث ومكر الإذعان والطاعة وسلك طريق المعصرة متصنّعا الذل والمسكنة، وحول المدار بدأ رحلته الرتيبة وبدأت الصخرة الاسطوانية في الدوران تدهس حبات الزيتون، شرع عامل المعصرة يتفقد "الشّوامي" ويرتّب المكايل ويرصّف البراميل ثم كلف أحد معاونيه بإعداد الموقد وغسل أواني الشاي...
* * *
كانت الظلمة تهيمن على المعصرة والجدران تكسوها طبقة من الأوساخ الإسفلتية اللون والزوايا تعلوها خيوط العنكبوت ،ولمّا اِستوت نار موقد الشاي ألسنة لولبية بدأت ملامح العمال داخل المعصرة تتضح وعندما اِخترق النّور الغمّاضة التي كانت تعصب العينين رفع البغل رأسه في تعنّت وإباء وتوقف عن السّير والدّوران... !أمره أحد العمال بمواصلة السّير بصيحة خاصة تعود البغل سماعها فأبى وامتنع جاء المعاصري وألهب الظهر بالسّوط فحرك البغل القائمان الخلفيان في خفة ورشاقة في صكات متتالية أسقطت المعاصري مُغمى عليه مضرّجا بالدماء...وأثناء وقوعه دحرج الرّجل نصف برميل من الزّيت فشكل الزيت المندلق جداولَ صغيرة توزّعت على أرضية المعصرة بللت الخِرقَ والأكياس الملقاة في شتى الأماكن...تسرّبت شظايا النار متساقطة حول الموقد فاِشتعلت نشارة الخشب الملقاة على الأرض لتفادي الانزلاق واِشتعلت الأكياس والخرق فأسرع العمّال وجرّوا الرّجل الواقع أرضا خارج دائرة اللهب فأنقذوه من الهلاك...تصاعدت ألسنة النار فاِشتعلت حبّات الزيتون المدهوسة في المدار وتسربت النار للحبال التي تشد البغل للصخرة واِحترقت خيوط الخرقة التي تُعصّب العينين فسقطت بقياها على الأرض فاِنبهر البغل بالنور السّاطع المتوهج ...ولمّا وصلت ألسنة النار إلى قوائمه قفز قفزة عمودية ثم تلتها قفزة جانبية فسقط عمود المدار القطب الذي يربط بينه وبين الصخرة ثم اِنطلق يعدو مخترقا ألسنة اللهب...
* * *
قطع البغل المناطق الآهلة بالسكان واِلتجأ إلى غابة كثيفة الأشجار وارفة الظلال والكلأ وفي عمق الغابة تمدّد ثم تمرّغ فوق العشب فهدأت دقات قلبه عائدة إلى نسقها المعتاد واِمتلأت رئتاه بالهواء النّقي فتطهّرتا من دخان حريق المعصرة...أحس البغل بوخزات الجوع فتذكر مخلاة الشّعير...وشعر برغبة ملحة لممارسة النهيق ثم تراجع وكبت نهيقه وقال :
ـ عادة النهيق عادة سيئة كنتُ أقوم بها وأنا أسير العبودية...والآن ها أنا أتنفس الحرية والكلأ الأخضر الرّيان في متناولي والجداول الرّقراقة من حولي فلا أرى فائدة من الشّهيق والنهيق ثم شرع في قضم العشب...
* * *
كانت الشمس ترسل أشعتها على الأغصان والأوراق الكثيفة فينعكس النّور فوق الأرض المعشوشبة في دوائر ومثلثات في أشكال هندسية مختلفة تغري الخيال بالانطلاق إلى آفاق رحبة...اِتكأ البغل على جدع شجرة ضخمة وسرَح بخياله وفكره في أحلام اليقظة وبدأت التساؤلات تتراكم داخل جمجمته...
ـ ترى هل حكمت الطبيعة على فصيلة البغال بالعقم والعِنّة أم حكمنا نحن على أنفسنا !؟ ربما الأجيال السّابقة من البغال لم تـُتح لها الفرصة لكي تقوم بتجربة الوصال واللقاح والإنجاب...إن سلالة الإنسان حسب اٍعتقادي هي المتسببة في هذا العقم ،لأن الإنسان لا يسمح للذكر من البغال أن يتصل بأنثاه لكي تبقى القوة مُدّخرة تُصرف في الأهوال والأشغال الشاقة لأن الطاقة َ مصدرٌ يدر المال لتوفير السّعادة لبني الإنسان. لقد حكم الإنسان على البغلة بقتل عاطفتها لكي لا تصاب بالترهل من جراء الإنجاب فبقيت فصيلتنا عالة على فصيلتين متناقضتين...
توقف البغل عن الهذيان والتداعيات،ونظر من حوله فبهرته الغابة المترامية وشدت ناظريه الجداول المنسابة في هدوء وسكينة فشعر لأول مرّة في حياته بفحولة خارقة تسري في عروقه فقال :
ـ ها أنا الآن أصبحت حرا طليقا وسط الغابة وقد تحرّرت من قيود العبودية والهوان،سأؤسس مملكة للبغال في هذا الفضاء الخصيب...وسأسوسها بالعدل والإنصاف وأمكّن كل بغل من بغلة تفيض أنوثة ليخرج للحياة نسل جديد يكرع من مناهل الحرية ويعيش طليقا بعيدا عن السّياط والقيود.


بقلم الكاتب رمضان لطيفي  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.