أعلان الهيدر

قصة حالة طوارئ


قصة حالة طوارئ
قصة حالة طوارئ
أزهار أحمد آل مهنا
ساد الغرفة رقم (112) في إحدى زوايا المستشفى حالة من السكون بعدما خلد المريض (هاني) للنوم نتيجة لحقنة قدمتها له ممرضته (ملاك) بعد محاولات عديدة لتضميد جراحه العميقة والتي كانت تنزف بغزارة ..كان عملاً شاقاً منذ الصباح الباكر.. جلست(ملاك) تتأمل ذلك الهيكل النحيل على السرير الذي أمامها شاب لم يكمل العقد الثاني من العمر يتعرض لحادث مؤلم ليس لشيء سوى أنه حمل كتبه متوجهاً لحافلة النقل التي تصحبه لجامعته كل صباح..لم يكن متوقعاً أن لحظة خروجه هي نفسها اللحظة التي يمر فيها شاب آخر بسيارته الجديدة والتي أقسم أن يقتل بها أحداً حين راح يجربها كصاروخ أرضي.. لم تنس (ملاك) حادث الليلة السابقة حيث لم تستطع النوم بسببه.. شاب لم يكمل العشرين في سنوات عمره ينقل للمستشفى على هيئة أشلاء ..رأسه مقطوع.. وجهه مبهم المعالم..إحدى يديه مبتورة من الوريد.. وجزء من رجليه فقد بشرته التي تغلف عظامه..لسبب بسيط جداً أنه أراد تقديم حركة بهلوانية بدراجته النارية وذلك لزيادة تصفيق الجمهور.. وفعلاً صفق الجمهور ولكن بطريقة ضرب كف بأخرى حسرة على البطل الذي اصطدم بسرعة مجنونة بعمود الكهرباء على طرف الشارع لتتبعثر أشلائه كما لو كان دمية رخيصة.. كثيرة هي الحوادث هذه الأيام وأغلب أبطالها شاب مجنون و آخر ضحية..
في الساعة الثانية عشرة ينتهي دوام (ملاك).. انطلقت بسرعة نحو غرفة الممرضات.. نادت بصوتٍ عجول: (رحمة كفاك ثرثرة فقد بدأ دوامكِ.. استلمي المريض في الغرفة رقم (112) سيستيقظ بعد نصف ساعة, وخرجت مسرعة نحو بوابة المستشفى لأن (أحمد) ينتظرها منذ ربع ساعة.. ركبت السيارة لتبدأ مناقشة على غير العادة..
- ما أخبار المستشفى اليوم؟
- أوه يا أحمد أرجوك غير الموضوع لأني سأمت من تذكر المصائب.
- حسناً السؤال الثاني يقول : ماذا سنتغذى اليوم؟
- سأُحضر أي شيء تريده.
- إذا توقف الأمر علي أريد أرزاً باللحم المشوي.
- حسنناً قف عند أقرب مطعم وأطلب الغذاء.
- هل كل النساء يحضرن الطعام بهذه الطريقة؟
- تقصد أنك تريد مني أن أطبخ الغذاء ؟‍
- لا ولو وهل من حقي كزوج أن أطلب من زوجتي أن تذيقني شيئاً يُطبخ في المنزل؟؟
- أعرف إني مقصرة في حقك يا أحمد لكن..
- أعرف لكن ظروف العمل ..لقد حفظت هذه العبارة.. لكن ألا تدين أن اهتمامكِ بالمرضى أكثر من اهتمامكِ بي؟؟
- حبيبي أحمد المرضى هم وظيفتي فهل تريد أن أهمل عملي؟؟
- لا طبعاً يا حبيبتي أريد منكِ أن تهملي زوجكِ لأنه مجرد قطعة أثاث .
- أحمد أنت كنت موافقاً على استمراري بالوظيفة قبل زواجنا فلماذا بدأت بتعقيد الأمور؟؟
- للأسف أنا لم أعقد أمراً بل أبحث عن حل لأشعر بوجودي في البيت كرجل متزوج ورب أسرة.
- وماذا تقترح حلاً لمشكلتك؟؟
- ربما نسيتي بأنها مشكلة كلانا ..واقتراحي هو أن تختصري الوظيفة على دوام واحد كل يوم ليكون لي نصيب من وقتكِ الثمين..
- لكنك تعرف أني بحاجة للدوام الثاني لأتمكن من أخذ علاوة تقدير .
- فهمت.. لابد أن العلاوة التقديرية أهم من تكوين أسرة أو حتى الحفاظ على زوج.
- لكن يا أحمد..
- أظن إن الكلمات الإضافية ستتعبكِ فدوامكِ الثاني سيبدأ بعد ثلاث ساعات من الأفضل أن تنامي لتستعيدي نشاطكِ أنا مدعوا على الغذاء مع أحد الأصدقاء ..مع السلامة.
ألقت (ملاك) بنفسها على أريكة في الزاوية البعيدة من الصالة الواسعة.. كانت مرهقة جداً جراء وقوفها لساعات طويلة وتنقلها المستمر بين غرف المرضى الجرحى وذوي الإصابات البالغة.. جلست لتنفرد بنفسها.. لقد خرج (أحمد) غاضباً لم يفعل ذلك من قبل.. لابد قد نفذ صبره.. ربما أهملت واجباتي اتجاهه لدرجة أني تجاهلته.. نعم لقد كنت آتي متعبة لأبحث عن مكان يستوعبني في ذلك الفراش وهو ينتظرني ليستقبلني بابتسامة ود منتظراً شيئاً بسيطاً يقابل هذا الصبر والاهتمام بينما أنا لم أقدر ذلك..
اعتبرته أمراً عادياً وهو ليس كذلك فكل ممرضات القسم يعانين من مشكلات كبيرة مع أزواجهن جراء استمرارهن بالعمل..
(رغد) تفكر بالاستقالة لتتزوج فهي تعتقد أن الزواج والتمريض لا يتفقان و(حنان) تطلقت لرفضها أن تكون أماً فذلك سيعيق حركتها ولتحافظ على مكانتها في المستشفى لم تستلطف التضحية بوقتها للتفرغ لطفل تكون هي أمه.. و(رحمة) أهملت عملها واقتصرت على دوام واحد وزوجها مازال يرفض اختلاطها بالرجال ..نعم أنا الوحيدة التي لم أشتكي من (أحمد) لأنه كان صابراً وفي أكثر من موقف يترقب ليلة إجازتي لنخرج معاً في نزهة على شاطئ البحر أو للجلوس في مقهى مواجه للشاطئ.. بينما كنت أرفض متعللة بأني بحاجة للجلوس في المنزل أو زيارة أهلي.. بينما هو في زاوية مجهولة.. لقد أخطأت بحقه.. لابد من حل يرضيه فقد شجعني ووقف بجانبي حتى تخرجت من الجامعة وتسلمت الوظيفة.. إنه يستحق التضحية.
أعلنت عقارب الساعة تمام الثالثة.. فنهضت (ملاك) بسرعة متوجهة لجهاز الهاتف..
- آلو.. مديرة القسم.. معكِ الممرضة (ملاك ماهر) أرجو منحي إجازةً اضطرارية لثلاثة أيام لظروفي الخاصة.
أغلقت خط الهاتف تفكر أي شيء ستفعله الآن.. فقررت كتابة رسالة ل(أحمد).. فقد توقفت عن ذلك منذ أربع سنوات.. أمسكت القلم وأرادت أن تكتب.. لكن القلم تجمد بين أناملها الباردة حاولت ترتيب أفكارها من جديد.. أرادت التعبير بالقلم لكنها لم تستطع أن تكتب سوى ((حبيبي أحمد)).. مر أكثر من نصف ساعة دون أن تكمل السطر برغم أن بداخلها الكثير لتكتبه.. وأخيراً سقط القلم بعد أن اختنق بين أناملها التي ما عادت تعرف التعامل مع هذه الأداة.. فقد اعتادت أناملها على احتواء الحقنة ,المشرط أو أجهزة قياس الضغط والحرارة.
شردت بفكرها بعيداًَ لذكرياتها.. أيام الثانوية كانت عالماً مختلف لم تكن تحب الدراسة أو تهواها بل كانت لها علاقة وثيقة بالقلم.. كتبت الكثير, كل ما كان يخطر ببالها ترجمته بلغة الكلمات.. ما زالت تذكر تلك الهدية.. توجهت نحو غرفة نومها فتحت ذلك الدرج الذي لم يقم بزيارته سوى غبار الزوايا منذ أعوام.. أخرجت ذلك الملف الأسود مسحت الغبار عن سطحه الأملس.. فتحته.. عندها ابتهجت مشاعرها فهي مازالت تحتفظ بشهادات التقدير على كتاباتها الجريئة.. الكل كان يشجعها حتى قُبلت في دراسة التمريض.. تتذكر أنها حاولت أن تجمع بين الاثنين لكن الدراسة كانت أكثر تعقيداً من ترك مجال آخر للكتابة.. حاولت الإفلات من قبضة الدراسة ليستمر ذلك القلم لكن الكل عارض ذلك ليقول بصوت واحد إن الشهادة الجامعية والوظيفة ستغنيكِ عن شهاداتٍ معدودة تقول بأنكِ كاتبة.. رضخت لرغبة المجموع وتناست ذلك القلم وتركته وحده في زاوية بعيدة.. ليعاني ويعيش في حالة طوارئ.. واليوم عادت تريد أن يكون مثلما تركته قلم جريء يسرد كلمات العربية كما لو كان مبرمجاً منذ أربع سنوات.. لقد أيقنت في اللحظة الأخيرة أنها لم تعد قادرة على التلاعب بمفردات العربية.. فقد تناست أسسها مند أربعة أعوام حين أقدمت على دراسة التمريض باللغة الإنجليزية.. فقررت أن تنسى العودة للقلم.. فمات مختنقاً بين أناملها بعد أن عجزت عن إنقاذه بشهادتها العالية في التمريض وخبرتها في الإسعاف.
عند هذه النقطة أدركت الممرضة (ملاك) وبعد فوات الأوان.. أن قلمها مات.. فأقسمت ألا تدع شيئاً آخر يموت فحياتها هي أن تكون زوجة حقيقية.. ولا بد أن تضحي بشيء من أنانيتها في تحقيق ذاتها لتكون إماً بمعنى الكلمة قبل أن تبحث عن نفسها فتجدها ضاعت بين أروقة العيادة وممراتها.. وقد تبحث عن تضحياتها من أجل الآخرين فتجد أنها ضحت بزوجها وبيتها.. وقبل أن تبحث عن كيانها فتجد أن أمومتها في حالة خطر وربما كانت تحتضر.. فالتضحية أياً كانت لها حدود.
انتهى..

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.