أعلان الهيدر

الرئيسية الخصوصية والكونية تحليل للاستاذ عز الدين الرتيمي

الخصوصية والكونية تحليل للاستاذ عز الدين الرتيمي

تلخيص محور الخصوصية والكونية 
فلسفة - باكالوريا
الخصوصية والكونية تحليل للاستاذ عز الدين الرتيمي

" أفتح نوافذي لكل رياح العالم ولكن دون أن تقتلعني من جذوري "
المهاتما غاندي
الخصوصية والكونية تحليل للاستاذ عز الدين الرتيمي
محاور الإهتمام :
الخصوصية بين المطلق و النسبي
- في معنى الهوية الشخصية.
- في معنى الهوية المركبة.
الكوني مطلب إنساني.
- شروط إدراك الكوني.
- الكوني ضرورة ثقافية .
- الكوني ضرورة أنطولوجية.
الكوني بين الحاجة الإيتيقية والتبرير الإيديولوجي.
- العولمة إفساد للكوني.
نحو كونية جذرية.
تمهيد إشكالي:
ليست مسألة الخصوصية والكونية شيئا آخر غير الخوض في إحدى ثنايا مطلب الكلي، هذا العصي من حيث كونه مرغوب الفلسفة في البدء والأبد، إن المطلب الذي كان الحكم والفيصل بين المفكر حقا في الإنسان   سقراط   و من أبحر لينجز كلاما عن الإنسان – السفسطائي – من هنا كان الجدل في شوارع أثينا بين الجمال والشئ الجميل هنا نحن والآن نطلب الفلسفة لنفكر معا في الخصوصية في الهوية، في الثقافة، في الحوار، والتثاقف لنرسم أفق الكوني في معناه الكانطي والهيقلي أساسا من أجل تشذيبه مما علق به من أدران سببها العولمة التي ادعت إفتكاك مطلب العالمي.
لكن ما الذي دعانا للتفكير في هذا الاٍشكال هنا والآن ؟
لعل السبب الأولي أملاه النبش في مغالطة فصلت بين الخصوصية والكونية حتى لكأنهما في تعارض فتكون الواو الرابطة مقروءة فصلا . إن القراءة الممعنة ترغب الوصل لتأكيد الاٍستلزام من أجل إدراك " وحدة الكثرة وكثرة الواحد " على حد عبارة أدغار موران ، فالمشكل هنا كيف لنا فهم الخصوصية لتكون جسر عبور لكونية جذرية ؟ بل كيف نستأنف التفكير في الكوني الذي يحوي الخصوصي دون اٍبتلاعه ؟ فالخصوصية بلا معنى اٍلا متى كانت في أفق كوني طالما" إن قطرة ماء تشارك في عظمة المحيط واٍن لم تكن تعي ذلك لكان بمجرد أن تنفصل تجف تماما " هكذا قال غاندي .
اٍن مرادنا أن تعي القطرة أنها تشارك في عظمة المحيط هنا تكون الخصوصبة تخصيبا للكوني.
ثاني الأسباب أن إنتاجات العولمة من وسائل اتصال وشبكات وما أنتجته من مفاهيم كونية  من نوع " قرية كونية" ، "قرية كوكبية " تلزم الفلسفة اليوم بإعادة النظر في هذه البنى الفكرية لاٍمتحان مدى تحقيقها لمطلب الكونية الحقة لتكون مؤصلة بالفعل لماهو إنساني . ثالث الأسباب واقع الحال من حروب ودمار وفوضى ألزمت سمير أمين على كتابة مؤلف " إمبراطورية الفوضى " وهو أمر يدعونا إلى إعادة التفكير في معنى الهوية وكيف لها ألا تداس ؟ ثم كيف السبيل لتأصيل كونية من حيث هي حاجة أنتروبولوجية أولا و مطلب أنطولوجي ثانيا، هنا فقط قد يكون للكلي مقاما في عالمنا المحكوم بأنظمة رمزية أحالت واقعنا إلى عالم أزرار وصور.
إذا ما كان الذي تقدم هو بعض الدواعي فما هي المقاصد والرهانات ؟
لعلنا نراهن هنا على :
- الوعي بدلالات مفهوم الخصوصية وأبعاده .
- إدراك معاني الهوية المركبة كأفق " للعيش معا ".
- الوعي بشروط إدراك الكوني .
- الوعي بضرورة وجود طابع كوني لكل ثقافة إنسانية .
- الوعي بالأساس الأنطولوجي لمطلب الكونية.
- إدراك الأبعاد الإٍيديولوجية لمطلب الكوني وخطرها على الخصوصية.
المراهنة على تخطي صراع الخصوصيات نحو أفق إنساني اٍيتيقي.
الخصوصية بين المطلق والنسبي:
ليست الخصوصية شيئا آخر غير التميز عن الآخر والاٍتصاف بالتالي بملامح ذاتية تختلف عنه هذا عامة أما قيميا فتعني الوعي بالذات من حيث إدراكها لتميزها وحدودها الزمانية والمكانية والحضارية .
 انتروبولوجيا لكل جماعة خصوصيتها من حيث العرق و الثقافة فالتنوع في الثقافات إنما هو في الأصل دلالات على تميز الخصوصيات ليشكل بالنسبة للإنسانية " غنما لا غرما " على حد عبارة كلود ليفي شتراوس .
 إن التفكير في أمر الخصوصية فلسفيا يفرض منذ البدء الإ نتباه إلى مشكل قد يعيق التفكير السليم فيها، وهو أن يتحيز المفهوم للذات المفكرة فيه على هذا الأساس يكون لزاما التفكير في الخصوصيات بعقل كوني متنزه عن الاٍستهجان والتعالوية أو التفخيم والدونية طالما أن " البربري هو قبل كل شيء الإنسان الذي يعتقد بوجود البربرية" كما يؤكد شتراوس
 على هذا الاعتبار سنفكر فصلا وتفكيكا علنا بهذا الأسلوب الحجاجي نستوفي ما أراد تأكيده جون لوك في " الهوية الشخصية " أولا وما جاء به اٍدغار موران في " الهوية المركبة " ثانيا .
1 - الهوية أساس الخصوصية:
تتعدد دلالات الهوية وتختلف وهو ما يجعل الإمساك بها أمرا عصيا فقد مثلت الهوية إلى حد هيقل أمارة دالة على ذات مؤمنة بذاتها مقصية لكل ماهو مغاير وقد جسدها الكوجيتو الديكارتي بجدية ليؤكد أن الذات قادرة على تعقل ذاتها بمعزل عن كل سند خارجي لكن هذه التعالوية سرعان ما تهاوت منذ هيقل وبعده ليقع التشديد على الكثرة والتعدد والاختلاف إلا أن للهوية دلالات أخرى قد تكون ثقافية أو جغرافية أو دينية بل يمكن الحديث عن هوية شخصية أصلا وذاك هو رهان كتاب " الهوية و الاٍختلاف " لجون لوك الذي جاء ليدلل على أن الإنسان هوهو رغم التغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه فكيف كان جواب لوك عن سؤال فيما تتمثل الهوية الشخصية؟ و ما معنى أن يتوافق الفكر والإحساس في تعينها و ما مقصوده من التأكيد على ثبات الهوية؟
يميز جون لوك بين ثلاثة أنماط من المعارف:
ـ معرفة حسية : تأتي من الأشياء الجزئية و من الخارج .
- معرفة برهانيه : تحتاج إلى الاٍستدلال والحجاج.
معرفة حدسية: إنها معرفة مباشرة للعقل دون وسائط وهي أصدق أنواع المعرفة فطريقها الإحساس والتأمل و لا نحتاج فيها إلى برهان.
 إن معرفتنا لوجودنا الخاص مأتاه هذه المعرفة الثالثة طالما أنه أمر حدسي فنحن " ندركه بدرجة من الوضوح و اليقين بحيث لا يحتاج إلى برهان " هكذا هو أمر الهوية الشخصية.
 قد لا ندرك دلالة الهوية الشخصية إلا بالعودة إلى لفظ الشخص و تعرف ملامح الشخص أساسا بالفكر والذكاء و قدرته على التعقل والتأمل فللشخص قدرة على معرفة ذاته من حيث هو هو إذ أن من يدرك يدرك بالضرورة أنه يدرك و بالتالي فالتعقل إنما هو وعي بفاعلية العقل عند الإنسان الذي لا يقصي تلك المدركات الحسية فالشخص هو ذاك الكائن الذي يحس ويتذكر بل يؤكد لوك أنه الذي يشم ويتذوق.
إن الهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي وعندما يتعلق الأمر بالماضي يستحيل  الوعي اٍلى ذاكرة و تستمر الشخصية طالما كان الوعي مستمرا.
 إن ادراكاتنا متولدة من انطباعاتنا إذ و " لكي تكون فكرة واقعية، فلا بد لها أن تشتق من انطباع حسي ما " . إن هذا الاٍنطباع مطالب بأن يتصف بما يتصف به الشخص من ثبات واستمرارية في آن .
 يراهن جون لوك على محاصرة هذا الجوهر من أجل أن يميز بين الشخص و الإنسان فالثاني أكثر شمول بل في الشخص و معه نكون إزاء ما هو متعين، معلوم ، متفردا أما حديثنا عن الإنسان لمن الإطلاق ما يجعله ملغزا .
واضح إذا أن  الخصوصية تفهم في قاموس " جون لوك " في محافظة الشخص عن تميزه وفرادته ووحدته رغم شتى ضروب التجارب التي يخوضها الإنسان، هنا يكون الإقرار ب" الذات عينها " من حيث هي تشديد على النوماني أي الشيء من ذاته ولذاته.
2- الهوية من الإنغلاق إلى الإنفتاح:
- بارميندس: إن الوجود موجود و الموجودات غير موجودة.
ـ  هيرقليطس: إن الوجود غير موجود و الموجدات موجـــودة.
لعل الخروج من الوحدة البارمنيدية إلى تدفق النهر الهرقليطي أصبح ضرورة ملحة، هنا سنشرع لأهمية الوصل كبديل عن الفصل و بالتالي سنشرع للخروج من المطلق إلى النسبي بل قل من الاٍنغلاق إلى الاٍنفتاح ومن ضيق الهوية إلى إتساعية الإختلاف، هنا سيفكر اٍدغار موران في كتابه " سياسة حضارة " ليؤكد على ضرورة تأسيس هوية مركبة ينتجها التلاقح رغم تعدد المنابع.
واضحة هي مقاصد إدغار موران من قوله " إن العقول العاجزة عن تصور وحدة الكثرة وكثرة الواحد لا تقدر على الرفع من شأن الوحدة التي تولّد التجانس أو الرفع من شأن الكثرة التي تنغلق على نفسها " لكن بدءا من هم أصحاب العقول العاجزة؟ إنهم المنشدين إلى التطابق و التماثل أي التجانس بحيث يكون الشيء هو هو و لا شيء غير هو، كذلك هم المقرين بالكثرة في حد ذاتها لا من حيث هي نتيجة لجملة من الوحدات بل كثرة شاملة، إن هذه الكثرة غير المعترفة بالآخر مآلها للانغلاق.
 إن مطلوب ادغار موران هو الخروج من الهوية المتطابقة إلى "الهوية المركبة" هنا يكون الخروج حقا من الوحدة في حد ذاتها أو الكثرة المنغلقة اٍلى وحدة الكثرة وكثرة الواحد. هنا يكون التشريع للقاء ممكنا و الحديث عن التلاقح مالكا للمعنى.
 يفهم التلاقح ههنا على أنه الإيمان بالأرضية المشتركة للعيش معا جنبا اٍلى جنب بعيدا عن صلف الكبرياء من ناحية و عقدة النقـص من ناحية ثانية و هو أمر لا يكون ممكنا إلا بإحلال التلاقح و التنوع محل التجانس و الاٍنغلاق.
 إن التعايش الحكيم في إطار " الهوية المركبة" يفهم على أنه الحفاظ على الخصوصية مراعاة لتنوع الثقافات أولا ومن أجل تطوير الوحدة الثقافـــــية ثانيا ،هنا يتأصل الحوار بديلا عن العنف و السلم بديلا عن الحرب و الإقناع بديلا عن التعصب ، فالخصوصية محتاجة بالضرورة لأنها شبيهة بقطرة الماء إذا ما رغبت عن الاٍرتباط بالمحيط فإنها ستجف لا محالة بحسب مماثلة غاندي: " إن قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط حتى و إن لم تكن تعي ذلك، لكن بمجرد أن ترغب في الإٍنفصال تجف تماما " .
إن لقاء الإنسان بالإنسان و الثقافة بالثقافة و الحضارة بالحضارة أمور مشروطة بالإعتراف كأساس و الإيمان بالاٍختلاف كقاعدة ايتيقية و الرغبة في الإبداع كغاية أولى و بلوغ الكلي كغاية قصوى هنا تحديدا يكون للإنساني معنى.
لنا أن نميز مع ادغار موران بين هوية ثقافية متعددة المنابع  و هوية ثقافية متلاقحة فالأولي إنما تؤسس تماسكها من ماض متعدد الروافد عرقا و دينا و فنا و علما الخ . أما الثانية فتعني انفتاح هوية ثقافية ما في لحظة معينة على تجارب أخرى تزداد بها ثراء و تماسكا.
 واضح إذا أن الهوية المركبة هي بمثابة البديل الاٍيتيقي لحالة التعصب و الهيمنة في آن ، فلا الخصوصية ـ الهوية الثقافية ـ بقادرة لوحدها على الصمود الأبدي و لا بالنزعات الاٍستعمارية المتسترة بالقيم و الكونية بمنأى عن افتضاح أمرها ، و كثيرة هي شواهد التاريخ المؤكدة على موت هويات لأنها إنغلقت و تهاوى حضارات لأنها أقيمت على الهيمنة.
 لكن ما نقوله لإدغار موران نقدا : إن "الهوية المركبة" اليوم أضحت تركب دون إذن من أهلها ، خصوصا أمام الثورة المعلوماتية المعاصرة من ناحية و العولمة الغازية من ناحية أخرى، فالأبواب تفتح دون إذن والهويات تنتهك دون إشعار .

II. الكوني مطلب إنساني:
ـ1 ـ في الوعي بشروط الكوني :
ليس شأن الفلسفة إن تقتات من الواقع إنها تصوغه و تفهمه لتقوله بإمتياز لذلك هي تأتي دائما متأخرة إنها تكشف " بعد أن يكتمل الواقع مسار تكونه و يأتي على نهايته " هكذا يؤكد هيقل ولكن ، في زمن النهايات تحتاج الفلسفة أن تفكر في البدايات و عندما يعلن المركز صلفه وجبروته ليس لها إلا أن تصحح المسار فغرضها
 إيتيقي و مسارها إنساني من هنا جاءت العودة و من جديد للتفكير في الكوني لا لأنها علّقت التفكير فيه بل هي تستأنف التفكير لبروز مفاهيم جديدة تتجمل بالمساحيق لتعوضه حتى يظهر الإنسان المعولم على أنه الإنسان الكوني النموذجي.
 إن الكوني فلسفيا شيء آخر مغاير تماما إنه بالسلب ليس العولمة التي نقلتنا من "دعه يعمل" إلى "دعه يربح" بل الكوني مطلوبه " دعه يعيش " هنا يستحيل الكوني مطلبا ملحا وأفقا إنسانيا هو من الضرورة ما يجعل غيابه إعداما لإنسانية الإنسان أولا و هدما لكل القيم الأخلاقية ثانيا.
لعلنا لا نتعرف على الكوني حقا إلا متى فكرنا في ملامح المثقف القادر على إحلاله بديلا لراهن لا يتجسد فيه هذا المطلب اٍلا من حيث هو دال دون مدلول.
حدد هيقل في كتابه " العقل في التاريخ " سمات المثقف الكوني .
- انه من يحسن ختم أفعاله ببصمة الكلية.
- انه من تخلى على خصوصيته .
- انه من يتصرف وفق مبادئ كلية.
- انه من لا يتصرف وفق ميولا ته و رغباته .
 إن من أدرك هكذا خصال أمكنه التعود على حياة التأمل فعرف المهم و المفيد و عزل الظرفي و المظهر بل بذلك يبلغ عملية التجريد بما هي السمة المميزة للمثقف الكوني.
إن هيقل و هو يرسم ملامح هذا المثقف الكوني و جدناه يميزه عن" الجاهل" الذي استغرقه الآني و الظرفي و المظهر فهو و إن تمكن من " استيعاب السمة الأساسية لشيء ما في الوقت الذي يحرّف فيه عشرات السمات الآخرى "
 إن المثقف الكوني هو من تصرف وفق أهداف كلية ، فقهر الذاتي و تجاوز الخاص و تملص من الأهواء و تغلب على النزوات، إنه من كان فعلا لا لنفسه بل للآخرين و لعلنا هنا في تقارب من كانط و هو يميز بين الأمر القطعي أي الواجب من أجل الواجب و الأمر الشرطي أي الواجب خوفا من الواجب في قوله " إفعل فقط طبقا للمبدأ الذاتي الذي يجعلك تقدر على أن تريد له في الوقت نفسه أن يصير قانونا كليا ".
 إذا متى يمكن أن نقول أن فعلا ما بلغ الكلية ؟ انه متى كان قطعيا فالكوني من هنا ايتيقي أو لا يكون بل لا معنى له إذا لم يكن إنسانيا لأنه عمق الإنسان و حقيقته أو لم يقل مالبرانش في كتابه " إضاءات حول البحث عن الحقيقة " : " إن العقل الذي نستشيره حين نتأمل في أعماق أنفسنا هو عقل كوني " و في الكتاب تأكيد على أن التأمل لا الإٍنفعال هو الطريق الأسلم نحو الكونية.
إن الكونية إذا مشروطة وقد  تكشفت الشروط مع هيقل و كانط و لكن بأي معنى تكون حاجة أمن جهة كونها ضرورة ثقافية أم من حيث هي استكمالا لمنقوص أنطولوجي؟
2 ـ الكوني ضرورة ثقافية:
" علينا أن نوسع من محتوى الأنا أفكر الديكارتي " هكذا أعلن هوسيرل و هو يرسي البناء الفينومينولوجي فإذا ما كان الوعي عند ديكارت من الأنا والى الأنا فإن الوعي عند هوسيرل سيعطي للآخر قيمة " فكل حاله وعي هي وعي بشيء ما "، فالقصدية تؤمن بالتضايف و تعطي للآخر المغاير حق الوجود لأننا و به نستكمل ماهيتنا فالأنا محتاج بالضرورة لآخر يدعمه و يحاوره على هذا الأساس سيتأصل الاٍنفتاح فينومينولوجيا لتصبح الكونية حاجة ثقافية فالآثار الثقافية بدءا بالموناليزا مرورا بالآثار وصولا إلى السلوكيات قادرة على أن تخترق الخصوصي لتعبر عما هو إنساني كوني، هنا تساءل مرلوبنتي ما دلالة الحضارة ؟ و كيف للأنا أن تتحول اٍلى أناءات ثقافية؟ و كيف يستحيل التعايش في إطار التنوع علامة دالة على الكوني كأفق إنساني؟
يتأكد مع ميرلوبنتي أن الآثار وسيط بين الماضي و الحاضر بل بها يكون الاٍرتقاء من الخصوصي اٍلى الكوني ، فالآثار علامات دالة على حضور العقل باٍمتياز في لحظة تاريخية ما، لذا نرى أن العالم الثقافي غامض إلا انه حاضر بعد، هنا قد نكون في حاجة اٍلى الأبحاث الأنتروبولوجية لتوضح لنا هذه المفارقــــة ف"التقدم الذي أنجزته الإنسانية – يقول كلود ليفي شتراوس – منذ وجودها ظاهر وواضح" إن ما يجعل الشعوب حاضرة رغم غيابها هو ما خلدت سواء كان التخليد ظاهرا – مواعين آثار، كتب... – أو باطني من حيث كونها عدلت مسارا و أسهمت في بناء آخر فحقبة الحجر المشطوب أو المسمى بالعصر الحجري مازال إلى اللحظة نقطة دالة في التاريخ الإنساني و هو ما يدل ان المنجز كان في لحظته خصوصيا أما و الآن فانه ملك إنساني كوني.
 إن ما يصح على الثقافات يصح أيضا على الأعراق هكذا يرى كلود ليفي شتراوس المراهن على فكرة " تحالف الثقافات " الذي يسمح لكل ثقافة بالتفاعل مع الأخرى دون أن تفقد خصوصيتها.
إن الكوني مطلب تدعمه مآثر الإنسان الثقافية و هنا قد تلعب الأنظمة الرمزية ، وبخاصة الفن دورا أساسيا في إبراز الطابع الكوني للحضارة و الثقافة الاٍنسانيتين يقول هيقل " إن أمما بأسرها لم يتيسر لها التعبير عن عقائدها وعن أشد حاجاتها تجذّرا إلا بما شيدت من معالم ".
إن عظمة الآثار تكمن في صمودها و قدرتها على تأبيد الماضي لتجعل حضوره في الحاضر دائما و إن كان فكرة متسترة إلا أنه دليل على أن الأنا ،أناءات والثقافة ثقافات على اعتبار أن للأنا تجربة ووعي عن ذاك الوسط الثقافي الذي خلقه وعن السلوكيات التي تتناسب معه وهنا يؤكد ميرلوبنتي " عندما أكون قبالة آثار غابرة أتصور بالمماثلة نوع البشر الذين عاشوا فيها " هنا يكون التواصل بين الأنا و الآخر بل بين النحن والهم ،فالمسافة تقطعها الآثار والهوة يردمها الوعي ليردم بذلك التباعد و ينبجس الكوني كأفق جامع و لحظة تأليفية ترتقي بالإنسان اٍلى مصاف الإنساني وتتعالي بالخاص إلى منزلة الكلي.
إن مقصود مولوبنتي هو التأصيل لفكرة " التعايش " من حيث هو الآلية المثلى لتجاوز المركزية ، فالأنا بلا قيمة إذا ما أعدم الاٍعتراف بالتنوع و التكامل ، هنا يصبح الكوني مجالا لإٍنصهار الحياة الفردية مع الحياة الجماعية .
3ـ الكوني ضرورة أنطولوجية:
قد يكون لزاما العودة إلى الفلسفة السياسية لكانط للوعي بالطابع الكوني لحقوق الإنسان فالمنطلق من هنا حقوقي سياسي مطلوبة رسم ملامح انطولوجيا الكوني أما الرهان فبحث فيما هو انتروبولوجي لأن الإنسان هو سؤال الأسئلة عند كانط على هذا الأساس سيفكر في الكوني أنطولوجيا من خلال التأكيد على ضرورة احترام الغريب استجابة لشروط الضيافة الكونية فما الذي ألزم كانط على المطالبة بتحقيق شروط الضيافة الكونية ؟ وكيف ميز بين حق الزيارة و حق الإقامة و أخيرا كيف لحق الضيافة أن يكون مرتكزا لتأصيل المواطنة الكونية؟
بوضوح يؤكد كانط أنه، ولضمان الحق السياسي الكوني في الحالة المدنية يتوجب المرور بشروط ثلاثة :
ـ تأصيل نظام جمهوري : على اعتبارأنه الحل الأمثل لتلافي الحرب المعممة.
ـ إنشاء كنفيدرالية : فالتعايش بين الدول في اٍطار كنفدرالي من شأنه أن يحد من نفوذ صاحب السلطة .
ـ تحقيق المواطنة العالمية : من خلال سن قانون سياسي كوني .
إن ما يهمنا هنا هو اللحظة الثالثة على اعتبار أن من مستلزمات الحق السياسي الكوني ضمان " شروط الضيافة الكونية " ويبدي هنا كانط ملاحظة ، فالمقصود هو محبة الحق وليس محبة الإنسان لكن ماذا نعني بحق الضيافة هنا ؟
إنها تعني حق الأجنبي في أن لا يعامل وكأنه عدو حينما يحل في إقيلم آخر فالكنفدرالية تعني مشروعية تنقل الأفراد بين الأقاليم فالضيف لايجب أن نهابه أو نخشاه طالما كان مسالما بل لا يجب علينا ان نناصبه العداء إنه مجرد مختلف عنا وبالتالي فمن حقه إمتلاك خصوصية مغايرة .
للضيف حقان، حق الإقامة ولكنه مشروط بمعاهدة وحق الزيارة وهو ملك للجميع طالما ان "الأرض ملك للجميع" ويقدم هنا كانط برهانا كوسمولوجيا ليدعم به رهانه الانطولوجي أي حق تواجد الإنسان أينما عنّ له من اجل مقصد هو دائما وفي المنتهى انتروبولوجي لأن الإنسان إنما هو الغاية القصوى.
 إذا ولئن نفى كوبونيك مركزية المكان هاهو كانط ينفي مركزية فكرة المواطنة إذ لكل إنسان أن يحيا أينما شاء ،انه المنفتح على العالم والذي مكنته حقوقه من أن يكون صديقا وضيفا مبجلا.
يراهن كانط اذا على تأصيل فكرة"الاختلاط "أي المزج بين الخصوصيات بما هو الخيط الهادي لخلق سلم أبدية تخرجنا من اللامعقول اٍلى المعقول ومن الفوضى اٍلى النظام و من التشرذم اٍلى الوحدة أو قل بلغة كانط من الاٍعوجاج إلى التعديل Rectefication طالما أن الاٍستقامة المطلقة مطلب صعب التحقيق عند كانط.
نتأكد في المنتهى أن مطلب الكوني كانطيا إنما يتجلى في خلق واقع انطولوجي متصاهر متضايف ومتحد نضمنه بسن دستور سياسي كوني " و لعل الاٍعلان العالمي لحقوق الإنسان كان استجابة لهذا المطلب الكانطي في مادتيه الثانية عشر والثالثة عشر .
المادة 12: البند الثاني
يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه.
المادة 14: البند الأول.
لكل فرد الحق في أن يلجأ اٍلى بلاد أخرى أو يحاول الاٍلتجاء إليها هربا من الإضطهاد.
 بقراءة لهذه المواد يتأكد و للوهلة الأولى الطابع الكوني لمبادئ حقوق الإنسان لكن لعل هذا الإقرار بالكونية إنما هو إيهام بها كما أكدت عن ذلك حنا آرنت في كتابها "الإمبريالية" فقد حثت على ضرورة الاٍنتقال من حقوق الإنسان اٍلى حقوق الشعوب لما في هكذا إنتقال من رغبة جادة وبحق في الكونية ،فالإعلان يقر بها و يطلبها و لكنه مغرق في الخصوصية وعيا وليس جهلا، ولا غرابة فقد سنته الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية على ارض الدولة المنهزمة آنذاك و عاصمتها برلين لذا فأي إنسان نتحدث عنه في حقوق الإنسان؟
 إن هذا النقد الموجه لزيف كونية حقوق الإنسان يدفعنا إلى التفكير و بعمق في هذا الذي أصبح ملتبسا خصوصا إذا ما جاورته بعض المفاهيم التي تحاول أن تقتات منه إذ بها تطمسه.

الكوني بين االحاجة الإٍتيقية والتبرير الاٍيديولوجي.
1) العولمة إفساد للكوني:
لقد كان الكوني و لا يزال بحاجة ماسة و مطلب أكيد و لكن حاجتنا إليه و طلب ودّه لا يجب أن يحجب عنا تمنّعه من خلال تلويناته إذ لعله يزين عند البعض بمساحيق تخدعنا وتنيره بأضواء تبهرنا فلا نرى من حقيقتة إلا ما أراد لنا رؤيته، على هذا الاٍعتبار يكون لزاما وفي المنتهى.
ـ إدراك الأبعاد الإيديولوجية لمطلب الكوني وخطرها على الخصوصية.
ـ المراهنة على تخطي التضليل العولمي نحو تأصيل " كونية جذرية ".
علينا  إذا تشذيب مطلب الكوني مما أصابه في أيامنا من تلف جرّاء إلتصاقه بمفاهيم مشابهة و لكنها مخادعة كالعالمي و العولمي . هنا سيشتغل بودربار بعمق ليشخص الداء أما الدواء فلعلنا نعثر عليه ونحن نقرأ كتاب فرويد هاليداي " الكونية الجذرية لا العولمة المترددة ".
 إن الكونية و كما تقدم تأكيد على ما هو قيمي من حقوق وحريات و ثقافة و ديمقراطية أما العولمة فمنحاها سوقي لأنها امتداد للرأسمالية والاٍمبريالية، إنها الطور الذي أعلن عن تجاوز مطلب " دعه يعمل " إن تأصيل مطلب " دعه يربح " فهي فكرة ظهرت في الخمسينيات من هذا القرن ولكنها تأكدت بديلا بعد أن تفكك المعسكر الاٍشتراكي بل و تحديدا بتوقيع اتفاقية التجارة العالمية و ما ظهور فكرة " النظام العالمي الجديد " إلا إعلانا عن نجاح العالم المعولم. إن التبشير بمجتمع الرفاه الذي يقوم على سعة فضاء السوق أي على المنافسة سيقتل مطلوبنا إذ ليس للدولة الحق في أن تتدخل .
 هنا إمحت الحواجز وأصبحت الحدود بلا معنى وجوازات السفر بلا قيمة .إن مخادعة العولمة تكشفت من حيث هي لا تطلب يدا منتجة جديدة و لكن تستحمل فما مستهلكا جديدا.
 لقد استبدلت الخصوصية بالخوصصة وحل اللإيروس محل اللوغوس فنحن اليوم إزاء برونوغرافيا جديدة بما هي فجور جنسي و اختلاط عبثي فالثقافة الغربية أضحت تراود الثقافات الأخرى وتتحرش بها ويلعب الحرب هنا دورا رئيسيا و لعل عورات سجن أبو غريب و باٍنكشافه فضحوا العالمي المتخفي والعولمي المغالط والكوني الجديد المظلل.
 لا تعتبر العولمة خطرا على تنوع الثقافات من حيث هي نزوع مظلل نحو الكونية فقط بل لأنها مشروع لسيطرة الأقوى على الإعلام والنظم الرمزية بعامة و على السوق وبالتالي على القرار فالإعلام في ظل العولمة يقدم الرأي الواحد وفي السوق يقدم الخيار الواحد وكذلك في السياسة يستبد بالرأي وبالقرار فالعولمة من هنا إنما هي نزعة لإكراه العالم على ديكتاتورية الخيار الواحد لذلك لا غرابة أن يكون مناهضيها كثّر في عالمنا .
يتأكد إذا أننا في حاجة و من جديد للتفريق بين الكوني القيمي و العولمي الكارثي علنا بذلك  نتخلص من مباشرة هذه المفاهيم تلقائيا لتلافي التداول الديماغوجي لها فالمآل إذا لم نقم بذلك هو مزيد التأكيد على الإنسان المعولم أو الإنسان النموذج ؟
 يأكد بودريار أن الخصوصية في ضل العولمة تعدم وتموت بل ويعترف بعنف العولمي فالغرب دمر كل الخصوصيات التي دمجها ويدمجها بالقوة بما في ذلك من طمس للهويات وإعدام للثقافات و قتل لاٍختلاف والتنوع ، إنه نزوع إلى الهوية أي التطابق لضرب الهوية من حيث هي قوام الخصوصية .
2 ـ "العيش معا" بين الوهم والواقع.
لعل الكونية التي تتستر خلفها قوى رأس المال والمزوقة بالعقل و التقدم و التضامن من أجل العيش معا ليس إلا إيديولوجيا جديدة للأحادية و القطبية والمركزية بل بها تتستر على الإستعمار والهيمنة والغزو و تهجين الشعوب و نمذجة الإنسان فالتاريخ الملموس يكشف زيف هذه التطلعات الطوباوية فالدول الأقوى اليوم هي التي تكيف مطلب الكوني وتصرّف مضامينها فلسفيا و ثقافيا، فعن أي كوني نتحدّث ما بعد الكتاب " نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لمنظر التوجه العولمي فرانسيس فوكو ياما ففكرة النهاية إقرار جازم بأن التاريخ قد اٍكتمل وأن الإنسان أتى على نهايته حتى لكأن الأمركة أضحت قدر الإنسان المحتوم .
 إن هذا التحول من مفهوم الكونية من حيث هو مطلب ايتيقي ليصبح سندا لقوى الربح والوفرة ومجتمعات الرفاه ، حير المفكرة أراد كريشمان في مقالتها " العولمة و الرغبة وسياسة التمثيل " حينما قالت : ما وجه الفطنة في العالمية؟ و لماذا تكون خطاباتها مغرية بشكل لا يقاوم ؟ ما هي طبيعة سلطتها؟ بل تعتبر هذه المفكرة أن فكرة العالمية والعولمة بيانا دروينيا لبقاء الأصلح وهنا تكون العودة المتسترة للمركزية الغربية التي تدافع عن الخصوصية لتنفيها وعلى الكونية لتقتات منها .
 إن الكونية طريق جديد للهيمنة نظريا وأما العولمة فممارسة تطبيقية لهكذا هيمنة لتلعب العالمية دور الوسيط في لعبة الأقنعة .
 إن مقصود الفلسفة في المنتهى أن تتضنن من أجل كشف الأقنعة لكن " واجب النقد اليوم يجب أن يرافقه واجب المعقولية " كما قال فرويد هاليداي في كتابه " الكونية الجذرية لا العولمة المترددة " الذي استند اٍلى دابليو . جي راسمان ليميز بين ما أسماه " المستحيل المرجّح " و "الممكن المستبعد" فعالمنا اليوم مطالب بدعم المستبعد و ذلك لتحقيق الممكن على اعتبار أن الاطمئنان للسائد ومسايرة الواقع إعلانا عن موت الفلسفة فعالم اليوم يئن و المظطهدين بحسب عبارة ماركس مازالوا يتنهدون بل بصوت أعلى من ذي قبل بل إن الدين غير قادر لأسباب عدة على التخفيف من تلك التنهيدات .
إذا عزاؤنا اليوم إذا ما رمنا للكونية ديمومة  وواقعية التطلع إلى نظام عادل مقام على المساواة و الديمقراطية و الحقوق رغم كونها مبادىء تدخل في خانة " الممكن المستبعد " خصوصا إذا ما علمنا أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات يهدد الخصوصية و التقدم في التكنولوجيا الحيوية يهدد المعايير القيمية إذا و بعد "الريزو" و ما رافقه من تطور بيولوجي في عالم "الجينوم" ليس لنا إلا أن ننتظر طويلا فبقدر تسارع العلم والتقنية بقدر ما يكون "الممكن المستبعد " أكثر بعدا و لكنه ليس مستحيلا .
 ليس من باب التشاؤم أن نؤكد هذه الأحكام إذ في زمن الجندر و الجنس المصور أو البورنوغرافيا قد يكون التشاؤم طريقنا نحو مساءلة حقيقية للراهن.
إن التفكير في الكونية إذا يمر أولا بالحد من تسارع العلم و ثانيا بفهم كيفية إشتغال العالم.
و أما مفتاح هذين الشرطين فأكد عليه شيلر schiller في كتابه " في جمالية تعليم الإنسان " بالقول  إنه التعليم الذي يكرّس فكرة أن الفرد مواطن دولته و مواطن العصر الذي يعيش فيه.
على هذا الأساس يمكننا الحديث عن  " كونية جذرية " منحوتة بمنظومة قيم عالمية مشتركة تتفق عليها الحضارات والأديان كمرجعية ونظام معياري يحددان أنماط العلاقات على أسس تعاونية ليست صراعية حتى يقتنع الجميع أن جوهر الكونية ليس نتاج الفكر الغربي حصرا بل فكر الإنسان عامة الذي ساهمت فيه وما تزال كل ثقافات العالم سواء راهنا أو عبر قرون التاريخ الطويلة .
إن الكونية أخيرا وعي ومسؤولية فطالما أن المستقبل يبدأ من الحاضر كما انطلق الحاضر من الماضي فإن الكونية إنخراط في بناء مستقبل أفضل للجميع رغم تعدد الأعراق والثقافات.
  " إن قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط ، حتى و إن لم تكن تعي ذلك ، لكن بمجرد أن ترغب في الانفصال تجف تماما"

المهاتما غاندي

1 commentaire:

  1. عمل رائع و متماسك ينم عن مجهود واضح و تفكير غني و متين . شكرا جزيلا لكم

    RépondreSupprimer

Fourni par Blogger.