السلطان الغازي سليم خان الثالث، رائد الحركة الإصلاحية في الدولة
العثمانية
ابتدأت
محاولات الإصلاح الجدية في عهد السلطان سليم الثالث، الذي يُعد من أوائل المصلحين
والروّاد الحقيقيين في التاريخ العثماني كله، وقد قلّده من جاء بعده، واستهدفت
إصلاحاته نواحي الحياة كافة، إدارية وثقافية واقتصادية واجتماعية وعسكرية. كانت
ثقافة هذا السلطان أكثر اكتمالاً من ثقافة من سبقه من السلاطين، إذ تلقّى بعض
التدريب على الأفكار الغربية، كما تلقى تعليمًا خاصًا بالطرق الأوروبية، واطّلع
على كتابات المؤلفين الأوروبيين، ويبدو أنه استوعب الحالة المتدنية للدولة بشكل
أفضل من أسلافه. وعندما اعتلى هذا السلطان العرش كانت ثروات البلاد قد وصلت إلى
حالة متدنية، وكان العثمانيون قد عادوا للحرب مع روسيا والنمسا، ولم يكن باستطاعة
أي سلطان أن يقوم بحملة إصلاحات ورحى الحرب دائرة، لكن جاءت عناية القدر، عندما
ظهرت الثورة الفرنسية وانشغل الإمبراطور النمساوي بها، وخاف أن تمتد إلى بلاده،
فعقد صلحًا مع العثمانيين أعاد إليهم بموجبه بلاد الصرب وبلغراد. واجهت السلطان
سليم الثالث في بداية حياته السياسية، المشكلات التقليدية القديمة: تفوّق الغرب،
والاتجاه المحافظ لشعبه، وكان بطبعه ميالاً للإصلاح بحيث لم يتردد في الأخذ ببعض
الأنماط الغربية، بعد أن حصل على معلومات عن المؤسسات المدنية والعسكرية لدول
أوروبا الغربية وأسباب تفوقها على العثمانيين. فجاء بفكرة الجنود النظامية ليتخلص
من الإنكشارية الذين أصبحوا منبعًا للفتن والهزائم، وأصلح الثغور وبنى القلاع
الحصينة لحمايتها وجعل إنشاء السفن على الطريقة الفرنسية، واستعان بالسويد في وضع
المدافع، وترجم المراجع العلمية في الرياضيات والفن العسكري، كما وضع نظامًا
هرميًا للقيادة العسكرية، وأخضع التجنيد لقواعد أكثر صرامة، ووضع نظامًا للجنود
المشاة تضمن تعليمات لمساعدة الجنود على التصرف كوحدة، ودُعي هذا النظام
"بالنظام الجديد" كان من الطبيعي أن تبرز المعارضة لإصلاحات السلطان
سليم الثالث العسكرية من جانب المحافظين عند إدراكهم لنتائجها، فنظر الإنكشارية
إلى هذه الإصلاحات نظرة ارتياب خاصة بعد فصل السلطان الأسطول والمدفعية عن فرقتهم،
فثاروا ومعهم الجنود غير النظاميين وأجبروا الخليفة على إلغاء النظام العسكري
الجديد، ولم يكتفوا بذلك بل عزلوا السلطان وقاموا بقتله لاحقًا بناءً على أمر
خليفته،ويُعتبر سليم الثالث السلطان العثماني الوحيد الذي قُتل بسلاح أبيض.
معركة
"ميشار" (1806) بين الثوّار الصربيين تساندهم النمسا وروسيا، والدولة
العثمانية، بريشة "أفاناسيج شيلوموڤ".
معركة
ناڤارين (1827) بين الأسطول العثماني والأوروبي، بريشة لويس أمبرواز گرنار :
وكان
من أبرز الأحداث التي حصلت في عهد سليم الثالث قيام الحملة الفرنسية على مصر
بقيادة نابليون بونابرت الأول، فتحول أعداء الأمس إلى حلفاء والعكس صحيح، حيث
انهارت الصداقة العثمانية الفرنسية التي قامت منذ عهد السلطان سليمان القانوني،
وتحالفت روسيا وبريطانيا مع الدولة العثمانية لإخراج الفرنسيين من مصر، وفي عهده
أيضًا تكونت جمهورية مستقلة في اليونان تحت حماية الدولة العثمانية. وبعد سليم
الثالث تولّى مصطفى الرابع عرش آل عثمان، ولم يدم ملكه طويلاً قبل أن تثور
الإنكشارية عليه ويقوموا بعزله وتنصيب أخاه محمود بدلاً منه. امتلأ عهد محمود
الثاني بأحداث مهمة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فنتيجة للضعف الشديد
الذي دب في أوصال الدولة العثمانية ظهر فيها اتجاهان: الاتجاه الأول الذي أرجع ما
وصلت إليه الدولة العثمانية من ضعف إلى الابتعاد عن الإسلام، والذي ما كان
للمسلمين أن تقوم لهم قائمة في الأرض إلا بالتمسك به؛ والاتجاه الثاني الذي يقوم
على ضرورة تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، لكي يصل العثمانيون إلى ما وصلت إليه من
تقدم وازدهار. وكان من نتيجة الإيمان بالاتجاه الأول أن قامت الحركة الوهابية في
شبه الجزيرة العربية، واجتذبت إليها الكثير من أهلها، ودعت إلى تطهير الإسلام من
كامل الشوائب التي تعلقت به عبر القرون. ولما رأى السلطان محمود أنه من الضروري
قمع هذه الفئة التي يخشى من امتدادها على تفريق كلمة الإسلام، كلّف محمد علي باشا،
والي مصر ومؤسس أسرتها الخديوية العلوية، بمحاربتها والقضاء عليها، ففعل ما طُلب
منه وأباد الحركة الوهابية، ثمّ شرع في إصلاح مصر وتنظيمها وفق النظام الأوروبي.
وفي بداية عهد محمود الثاني استقلّت عدّة دول أوروبية عن الدولة العثمانية، وكانت
بداية انشقاق أوروبا الشرقية عن الدولة العثمانية عندما ثار الصربيون وطالبوا باستقلالهم،
فقمعتهم الدولة العثمانية مرتين، وتعهدت ألا تتدخل في شؤون الصرب الداخلية، وأن
تكون السيطرة للعثمانيين في الصرب على القلاع فقط
سرعان ما أعقب هذه الثورة عصيان "علي باشا" والي مدينة يانية
الألبانية، حيث امتنع عن دفع الخراج واحترام الأوامر التي تُرسل إليه من الآستانة،
فأرسل إليه السلطان جيشًا تمكن قائده من القبض عليه وإعدامه. وما فتئت المشاكل
تنهال على الدولة العثمانية، فقد ثار اليونانيون طلبًا للاستقلال وهزموا فرقة
عسكرية عثمانية أرسلت لقمعهم، فلم يجد السلطان لإخماد الثورة في اليونان غير محمد
علي باشا والي مصر، فاستجاب الأخير لطلبه وأرسل سفنًا حربية محملة بالجنود إلى
اليونان، استطاعت أن تحقق انتصارات كاسحة على الثوّار. غير أن ثورة اليونانيين
نجحت، واستطاع الثائرون أن يستقلوا ببلدهم عن الدولة العثمانية بعد المساعدات التي
تلقوها من الدول الأوروبية. كذلك كان الأسطول العثماني قد تحطم في معركة ناڤارين
عام 1827م، على يد السفن البريطانية والروسية.
دور الأفول والتنظيمات (1828–1908(
جديدًا
للجند قلّد فيه الأوروبيين، كذلك قام بعدد من الإصلاحات المدنية مثل إقامة المدارس
الحديثة ورفع يد الهيئة الإسلامية عن الإشراف على التعليم، وإرسال بعثات طلابية
إلى الخارج،واتجه بالبلاد إلى تقليد أوروبا حتى إنه تزيا بزيهم، واستبدل بالعمامة
الطربوش، والعباءة والجلباب بالبذلة الغربية.
أعلنت
روسيا الحرب على العثمانيين بعد أن رفضت الدولة العثمانية الاعتراف بقرارات مؤتمر
لندن الذي نص على استقلال اليونان، وتمكنت من احتلال البغدان والأفلاق، بل وصلت
إلى مدينة أدرنه وهددت الآستانة بالسقوط، فتدخلت بريطانيا وفرنسا لوقف تقدم روسيا
خوفًا على مصالحها في الشرق، فعُقدت بين الروس والعثمانيين معاهدة أدرنه التي نصت
على محمد علي باشا، أبرز ولاة الشرق العربي العثماني في أواسط القرن
التاسع عشر، وأشهر من أعلن العصيان على الدولة العثمانية في ذلك الوقت.
استمرت
المشاكل تنهال على الدولة العثمانية بعد سقوط الجزائر، وذلك أن والي مصر محمد علي
باشا طمع في توسيع رقعة نفوذه بعد أن غدا أقوى ولاة السلطان العثماني في الشرق
العربي وكان السلطان محمود الثاني قد وعد محمد علي بأن يوليه على بلاد الشام لقاء
خدماته الجليلة التي قدمها للدولة، لكنه عاد وأخلف وعده، إذ شعر أن وجود محمد علي
في الشام خطرٌ على كيان السلطنة نفسها فقرر محمد علي أن يجتاح بلاد الشام بالقوة،
فوجه جيشه إلى فلسطين وأخضعها، ثم زحف على مدن الساحل اللبناني وفتحها الواحدة تلو
الأخرى، وسرعان ما لحقت بها سوريا الوسطى والشمالية، وامتد زحف الجيش المصري إلى
الأناضول حيث هزم الجيش العثماني حديث النشأة في قونية، وأصبح قاب قوسين أو أدنى
من الآستانة، حتى خُيل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية الدولة العثمانية أصبحت
قريبة. عقب هزيمة قونية، استنجد السلطان محمود الثاني بالدول الأوروبية للوقوف في
وجه الخطر المداهم، فلم ينجده إلا روسيا، التي أرسلت 15 ألف جندي إلى الآستانة
للدفاع عنها، فخشيت بريطانيا وفرنسا من امتداد النفوذ الروسي وتوسطت للصلح مع محمد
علي، حيث أقر له السلطان بولاية مصر وجزيرة كريت وفلسطين ولبنان وأضنة، لقاء نفس
الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل. وفي غضون ذلك توسّع
النفوذ الروسي في الدولة خصوصًا بعد أن أبرم السلطان معاهدة مع روسيا تعهدت فيها
الأخيرة بالدفاع عن الدولة العثمانية لو هاجمها المصريون أو غيرهم. عمل السلطان
محمود الثاني في أواخر أيامه على استعادة الشام ومصر، فجمع جيشًا جديدًا، ونشط
عملاؤه في الشام يحرضون الشعب للثورة على المصريين، ثم سار الجيش وقام بهجوم عبر
الفرات أسفر عن كارثة نزلت به، إذ بدده الجيش المصري في معركة نصيبين عام 1839م.
ولم تصل أنباء هذه الهزيمة إلى السلطان محمود الثاني، إذ توفي قبل ذلك بأيام.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire