المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية
إن
للمثقف التونسي في الماضي و الحاضر بصمات مشرفة في تاريخ الثقافة العربية في
بلادنا وبالأخص في مطلع القرن العشرين و ما قبله
بقليل ، اذ عمل المثقفون في تونس على تأسيس عدة جمعيات ثقافية و فنية كان لها
التأثير الكبير على الحياة التونسية عامة و الفكرية و الفنية خاصة
.
وما
الرشيدية إلا مدرسة حرة من تلك المدارس البارزة في تاريخ الثقافة العربية المختصة
عملت على خلق تقاليد موسيقية عديدة و إحداث أنماط فنية صارت قبلة العمل الموسيقي
في إطاره النظيف .
دوافع
تأسيس الرشيدية :
لقد
حفت بتأسيس الجمعية الرشيدية عدة عوامل لعل أهمها :
-انعقاد
المؤتمر الأفخار ستي
في ماي 1930 ، ذلك المؤتمر الذي كان من أهدافه ابعاد الشعب التونسي عن لغته
العربية التي تربطه بعروبته و دينه و حضارته .
-قدوم
ثلة من المشرقيين الى تونس و تربعهم على عرش الطرب و ظهور الاسطوانات الشرقية و
تضاعف عدد الحفلات الشرقية ، كل ذلك ادى الى غياب الأغنية التونسية
.
-الحالة
السيئة التي عليها الأغنية التونسية و انتشار الأغاني التافهة و السخيفة
.
-انعقاد
المؤتمر الأول للموسيقى بالقاهرة سنة 1932 ، وقد كان من بين توصيات هذا المؤتمر
انشاء المعاهد و المؤسسات للحفاظ على الموسيقى ، ثم عودة الوفد التونسي من هذا
المؤتمر و اعرابه عن و جوب العناية بالموسيقى التونسية و حمايتها
.
تأسيس
الرشيدية :
انعقد
الاجتماع التأسيسي للرشيدية بالمكتبة الخلدونية في شهر نوفمبر من سنة 1934 وذلك
بحضور عدد كبير من الأدباء و الفنانين و المثقفين و رجال الأعمال و التجار ، وقد
تم إطلاق اسم الرشيدية على هذه الجمعية نسبة لمحمد الرشيد باي الذي كان له اهتمام
كبير بالفن و فضل على الموسيقى التونسية .
وقد
تكونت الجمعية الرشيدية من :
. لجنة
أدبية تعنى بوضع الأغاني ذات الكلمات الراقية
. لجنة
فنية تهتم بجمع التراث و وضع الألحان
. لجنة
الدعاية تعرف بالمؤسسة و بأعمالها
في
ميدان التعليم :
بدأ
التعليم في نطاق المجموعة الصوتية و التخت بحفظ الجمل الموسيقية و ترديدها ، ثم
سعت هيئة الرشيدية إلى رفع الأمية الموسيقية عن العاملين في الميدان ، فقام
الأستاذ محمد التريكي سنة 1935 بتجربة تعليم الترقيم في قسم أثثته المطربة شافية
رشدي ، ثم أعيدت التجربة مع الأستاذ الايطالي بونورة ، وفي سنة 1938 ، وقع جلب
الأستاذ علي الدرويش من سوريا ، وبقي الى سنة 1939 حيث عادت الدروس على يد
الايطالي بونورة ، وفي سنة 1943 عهد بالتعليم الى الأستاذ صالح المهدي ، وقد تعزز
هذا التعليم بفتح دروس للموسيقى العربية بالمدرسة التابعة لادارة المعارف ، وهذه
المدرسة التي كان تخصصها بالموسيقى الغربية ، وكانت حكرا على الفرنسيين تحولت سنة
1957 الى "المعهد الوطني للموسيقى" ، وقام ثلة من أساتذة الرشيدية بضبط
برنامج هذا المعهد بطريقة تضمن المحافظة على التراث و التفتح على الموسيقى العربية
عامة ، كما تخصصت الرشيدية حينئذ في تعليم الغناء العربي و الترقيم و المقامات و
الايقاعات العربية لمن تجاوزوا سن الطفولة ، وكانت تقوم الى جانب ذلك بتدريب خريجي
المعهد على العزف و الغناء الجماعي ، و هكذا تواصلت الدروس بالرشيدية و لم تتوقف
الا سنة 1972 حيث عوضها في ذلك المركز الوطني للموسيقى بنهج زرقون
.
في
ميدان جمع التراث :
فكر
أعضاء الهيئة المسيرة للرشيدية في تدوين المالوف وكتابة موسيقاه خوفا من التلاشي
وضياع التراث الموسيقي بين الرواة ، فتقرر تكليف الشيخ خميس الترنان بالاشراف على
هذا العمل ، و الأستاذ محمد التريكي بالترقيم الموسيقي ، والأستاذ الحبيب العامري
بتنظيف الكتابة الموسيقية ، وقد تم الاعتماد في ذلك على مجموعة من شيوخ المالوف و
منهم خميس الترنان ، المنوبي بوحجيلة ، علي بانواس ، الصادق الفرجاني و أحمد
الضحاك وغيرهم من أعضاء اللجنة الفنية للرشيدية سواء لدى اذاعة تونس في الحصص
الأسبوعية ، أو لدى اذاعة باريس سنة 1954 ، والتي اشتملت على اثنتي عشرة نوتة من
المالوف .
وقد
وقع كذلك جمع شيوخ الفن من كافة أنحاء الجمهورية لتسجيل محفوظاتهم و ذلك في ثلاثة
مؤتمرات ، بتوزر سنة 1963 ، ثم بطبرقة و قرطاج سنة 1964 ، وهكذا توصلت الرشيدية
الى ترقيم نوبات المالوف التونسي و نشرها في تسعة أجزاء تم طبع آخرها سنة 1979
.
في
ميدان الانتاج :
اتجه
اهتمام اللجنة الفنية - الى جانب جمع التراث - الى وضع الألحان للأغاني و الموشحات
الحديثة التي تقدمها اللجنة الأدبية ، وبذلك تشجع الشعراء لكتابة الأغنية المهذبة
التي تشتمل على صور رفيعة و معان سامية .
و قد
ظهرت أغاني الرشيدية منذ سنة 1935 حين نظمت مسابقة لتلحين أغنية علي الدوعاجي
" يا لايمي يزيني" ، وقد فاز في هذه المسابقة الشيخ خميس الترنان ، وبعد
ذلك تخلت الرشيدية عن فكرة المسابقات و أخذت توزع القطع على من تتوسم فيهم المقدرة
، و تقبلها بعد اسنماع اللجنة الفنية لها .
و
هكذا ، تنوع الانتاج ، فكانت المعزوفات و النوبات و النوشحات و القصائد و الأناشيد
و الأغاني ، وقد ساهم في التلحين كل من خميس الترنان و محمد التريكي و صالح المهدي
و قدور الصرارفي و الهادي الجويني و الحبيب العامري و غيرهم...
الرشيدية
و الحركة الثقافية :
الى
جانب أنشطته المتعلقة بالتعليم و جمع التراث و الانتاج ، كان المعهد الرشيدي يتحين
الفرص و المناسبات للقيام بنشاط أدبي أو فني ، من ذلك أنه كان يقيم حفلات لتكريم
الفائزين في الامتحانات الموسيقية ، تلقى أثناءها القصائد و الدراسات و يقدم
التلاميذ الناجحون نماذج من العزف .
كما
أقام المعهد حفلات تكريم على شرف بعض المؤسسات و هيئات المنظمات العالمية للموسيقى
و المجلس الدولي للموسيقى التابع لمنظمة اليونسكو ، و المجمع العربي للموسيقى ، و
كذلك على شرف ثلة من الأدباء و الفنانين .
الى
جانب ذلك أقام المعهد حفلات لأغلب الذين لاقوا ربهم من أبناء الرشيدية و مؤسسيها و
كذلك أحيى ذكرى العديد من أدبائها و فنانيها .
رغم ظهور
عدة مؤسسات ثقافية لها طابع موسيقي تقاسمت مع الرشيدية أهدافها و غاياتها ، فان
الرشيدية مازالت مركز اشعاع للعمل الموسيقي النظيف ، ولعل العامل الذي جعل
الرشيدية تعيش الى اليوم موفورة الصحة هو ايمان العاملين فيها بان العمل الموسيقي
الذي يقومون به هو جزء لا ينجزأ من شخصيتنا العربية يجب المحافظة عليه و تبليغه
للاجيال القادمة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire