السحابة السوداء.. من المسؤول؟
أدى
ظـهور دخان كثيف في سماء مدينة القاهرة العام الماضي أو ما عرف بـ «السحابة
السوداء» إلى جدل كبير في الشارع المصري حول أسباب المشكلة. البعض قال إن السبب هو
حرق المزارعين لقش الأرز، والبعض الآخر أكد أنها بسبب عوادم السيارات ومخلفاتها.
وكانت قضية شغلت الرأي العام والمهتمين بالبيئة لفترة طويلة.
يخضع
النشاط البشري بدرجة كبيرة لنوعية الهواء وتركيبه، حيث تؤثر محتويات الهواء على
النواحي الصحية للإنسان وسائر الكائنات الحية على كوكب الأرض. ولذلك يتم اتخاذ
الاحتياطات اللازمة للحد من الملوثات الجوية التي تغير من نوعية الهواء. كما تقام
في الكثير من الدول المتقدمة مشروعات لتقليل الانبعاثات الصناعية الضارة بصحة
الإنسان. وكذلك تبذل الجهود للحد من عوادم السيارات بهدف النزول بها تحت المستويات
المسموح بها والتي تم تقديرها عند السرعة الخاملة بنحو 900 جزء من المليون بالنسبة
للهيدروكربونات، و 5،4 في المائة بالنسبة لأول أوكسيد الكربون، وخمسة في المائة
بالنسبة للعتامة التي تحدث أثناء أقصى تعجيل.
من
المعروف أن جزيئات صلبة صغيرة توجد عالقة في الهواء الجوي بصفة مستمرة، وتزداد
أعدادها خاصة بعد العواصف الترابية وثورات البراكين كما أنها تنبعث كنواتج لعمليات
الاحتراق في ماكينات المصانع وموتورات وسائل المواصلات وغيرها. وتدل الفحوص
الكيميائية على أن أغلب الملوثات الجوية العالقة تتكون من الأبخرة وأكاسيد الكبريت
والكربون والنيتروجين. ويطلق على الجزيئات التي تظهر عالقة في الهواء من نواتج الاحتراق
اسم «الدخان». ويتكون عادة من أكاسيد الكربون والهيدروكربونات التي يبلغ متوسط
أقطارها أقل من عشرة ميكرومتر وتبقى عالقة في الهواء لمدة يوم أو يومين، وتتراوح
كثافتها ما بين 25 ـ 30 ميكروجرام في المتر المكعب فوق المناطق الريفية إلا إنها
تزيد فتبلغ نحو 250 ميكروجرام/متر3 في المدن الصناعية.
وتجدر
الإشارة إلى أن الجسيمات العالقة في الجو قد تكون كبيرة الحجم يزيد قطرها عن عشرة
ميكرومتر وهذه تترسب تحت تأثير ثقلها فتلتصق بأوراق النباتات والمباني والآثار
وغير ذلك من الأشياء المعرضة للعوامل الجوية المباشرة، وليست لهذه الأحجام الكبيرة
أضرار صحية إذ غالبا ما يتم احتجازها في الأنف قبل دخولها الجهاز التنفسي، أما
الجسيمات التي تتراوح أقطارها بين عشرة ميكرومتر إلى 5،2 ميكرومتر فإنها تترسب
غالبا في الأجزاء العليا للجهاز التنفسي مما يقلل من أخطارها، لكنها قد تحتوي على مواد
سامة مما يزيد من خطورتها على صحة الإنسان. وفي واقع الأمر فإن الجسيمات الصغيرة
التي يقل قطرها عن 5،2 ميكرومتر هي أكثر الجسيمات خطورة على الصحة؛ لأنها تعلق في
الهواء لفترات طويلة وتنساب مع ما يستنشقه الإنسان من هواء فتصل إلى أنحاء جهازه
التنفسي وتزداد خطورتها باحتوائها على مركبات الرصاص والهيدروكربونات وغيرها.
يتخلص
الهواء من كثير من الملوثات خلال عمليات التنقية الجوية المعتادة حيث تؤدي العوائق
والمباني والأشجار ونتوءات سطح الأرض إلى إحداث اضطرابات في حركات الهواء القريب
من سطح الأرض يتم على أثرها حمل الملوثات وبعثرتها في اتجاهات متضاربة، فتتشتت في
طبقة يبلغ سمكها نحو ألف متر في الأحوال العادية، ثم ما يلبث أن يحملها الهواء إلى
طبقاته العليا التي لا تنفك أهويتها تنساب في هبوط وصعود خلال الدورة العامة
للرياح فوق سطح كوكب الأرض. وتؤدي عمليات الاحتكاك وتداخل الأهوية مع الأسطح
المائية التي تشغل أكثر من ثلثي سطح الأرض إلى ذوبان معظم الملوثات في مياه البحر
والمحيطات فيصير الهواء نقيا لطيفا، ولكنه ما يلبث أن يعود فيحمل الملوثات عند
مروره على مصادر الانبعاثات المختلفة، فيتجه بها مرة أخرى إلى البحار والمحيطات
خلال الدورة العامة للرياح حيث يتم التخلص من معظمها هناك، وهكذا باستمرار يتم
تنظيف الهواء حيث يغتسل في مياه البحار والمحيطات.
غير
أن النسق السابق ذكره قد تعتريه بعض التغيرات المؤلمة خاصة خلال فصل الخريف، فمن
المعروف أن الكرة الأرضية تتحرك حول الشمس في مدار يميل مستواه بزاوية قدرها
5،23درجة على مستوى الدائرة الاستوائية. وتعادل هذه الحركة الحقيقية حركة الشمس
ظاهريا بطريقة عكسية، فكلما تحركت الأرض درجة إلى اليمين ظهرت الشمس وقد تحركت
درجة إلى اليسار. وحينما تبدأ الأرض رحلتها إلى أعلى بعد نقطة التقاطع بين الدائرة
الكسوفية وخط الاستواء فإن الشمس تبدأ حركتها الظاهرية تحت خط الاستواء من يوم 21
سبتمبر فتتجه صوب مدار الجدي، وينخفض موضعها في كل يوم بنحو ربع درجة حتى تبلغ
أقصى مدى لانخفاضها يوم 22 ديسمبر حيث تكون فوق مدار الجدي تماما، وخلال تحرك
الشمس ظاهريا صوب الجنوب يقل من يوم لآخر أقصى ارتفاع تبلغه ظهرا فوق مناطق نصف
الكرة الأرضية الشمالية، ولذلك فإن مقادير الطاقة الشمسية التي تسقط على تلك
المناطق تعاني من نقص متتال في قيمتها من نهار لآخر، وينشأ عن ذلك أن مقدار الطاقة
الشمسية الساقطة نهارا لا تتمكن من تعويض ما يفقده سطح الأرض خلال ساعات الليل،
وتكون النتيجة تبريدا مطردا لسطح الأرض خلال الليل، بينما يظل الهواء البعيد نسبيا
عن سطح الأرض في حالات كثيرة محتفظا بدرجات حرارة أعلى عما تحته. ويطلق على هذه
الظاهرة اسم «الانقلاب الحراري»؛ نظرا لأن درجة حرارة الهواء في الظروف الجوية
العادية تقل كلما زاد ارتفاعه عن سطح الأرض.
وتنشأ
عن البرودة الشديدة للهواء ليلا تشبثه بسطح الأرض، واحتفاظه بما فيه من ملوثات
مختلفة في طبقة رقيقة قد لا يزيد سمكها عن مئة متر تلاصق سطح الأرض دون أن تفرط
بما فيها من ملوثات لتنتشر إلى طبقات الهواء العلوي، فإذا كان اليوم التالي فإن
الملوثات المنبعثة من مختلف المصادر تضاف إلى ما بقى مختزنا بالطبقة الهوائية
الملاصقة لسطح الأرض، فتبلغ المحصلة حدا كبيرا قد يمكن الملوثات من الظهور على
هيئة غلاله من الدخان في الجو خاصة عندما يتم تكون الانقلاب الحراري بعد غروب شمس اليوم
التالي. وتتآزر الظروف الجوية السيئة عندما يتمركز ضغط جوي مرتفع في طبقات الجو
العليا، فيعوق انسياب الهواء السطحي إلى أعلى ولا يمكنه من التحرر من الانقلاب
الحراري بل ويشد وثاقه إلى سطح الأرض.
إذا
أضيف للظروف السابقة من ناحية أخرى زيادة في مقادير نواتج الحرق المكشوف وذلك بحرق
قش الأرز وغيره من المخلفات والزراعية والمدنية، فإن العواقب الوخيمة تكون هي
محصلة هذه الظروف المؤلمة، ويصبح ظهور السحابة السوداء في سماء العديد من المدن
أمرا لا مفر منه. وعادة ما تتكرر هذه الظروف لعدة مرات خلال فصل الخريف فتعود معها
سحابة الدخان في كل مرة لعدة أيام متتالية.
وتؤدي
زيادة بخار الماء الجوي مع الدخان إلى حدوث ظاهرة تسمى «الضبخان»، حيث تعمل بعض
جزيئات الدخان كأنوية يتكاثف عليها بخار الماء فيتكون الضباب مع الدخان، وينتج عن
ذلك انخفاض الرؤية الأفقية إلى أقل من كيلومتر واحد. فإذا زادت كثافة القطيرات
المائية الملوثة في «الضبخان» فإنها تترسب ويلتصق معظمها بالأماكن المعرضة للجو
كأسطح المباني والمنشآت والكباري وغير ذلك فتتآكل وتتعرض للتلف. ومن أشهر المناطق
التي تتعرض للضبخان مدينة لوس انجلس في الولايات المتحدة الأميركية حيث تكرر
ظهور «الضبخان» فيها 19 مرة عام 2000، ومدينة لندن وقد بلغت تركيزات دخانها أكثر
من 200 ميكروجرام في المتر المكعب خلال حالات عديدة. كما ظهر «الضبخان» بكثافة
عالية ثلاث مرات متتالية باليونان مما دفعهم إلى تجريم استخدام المواصلات الخاصة
والسماح فقط للسيارات العامة ذات الأرقام الفردية في يوم والأرقام الزوجية في
اليوم التالي، كما اضطر الإيرانيون إلى غلق مدارس الأطفال لعدة أيام في عام 1999.
احتياطات
ونظام للتحذير
تعمد
كثير من الدول إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة للمحافظة على نوعية جيدة من الهواء
وذلك بتقليل الملوثات الجوية والقضاء على وسائل الحرق المكشوف للمخلفات، واعتماد
مشاريع التشجير باعتبارها رئات المدن التي تستحيل الحياة إلا بها، كما يتم عمل
اللازم بهدف حماية صحة المواطنين وتنمية قدراتهم ومعدلات بذلهم للنشاطات المختلفة.
ويتبع لذلك نظام للتحذير من الأزمات الجوية حيث أمكن التوصل إلى التنبوء الدقيق
بالظروف الجوية التي تسبق حدوث الأزمات بفترة زمنية تصل إلى ثلاثة أيام. ومن ثم
يمكن اتخاذ إجراءات مسبقة للحد من مصادر التلوث، وتحذير المرضى وكبار السن
والأطفال من التجول أثناء الأزمات الجوية خصوصا إذا كان من المتوقع وصول ثاني
أكسيد الكبريت إلى 800 ميكروجرام لكل متر مكعب من الهواء لفترة تبلغ 24 ساعة أو
تزيد، أو أن يكون من المتوقع وصول تركيز أول أكسيد الكربون إلى 117 ملليجرام في
المتر المكعب لمدة ثماني ساعات أو أكثر أو أن يتوقع زيادة ثاني أكسيد النيتروز
ليبلغ 1130 لمدة ساعة. فإذا ما تعدت القيم المتوقعة للملوثات ما سبق ذكره من حدود
فإنه يتم التحذير، وفي مراحل تالية تتخذ الإجراءات اللازمة لإعلان الطوارئ الجوية
عند الضرورة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire