الرسام دومييه وبروزه في مجال الكاريكاتير
هنري دومييه من رسامي المدرسة الواقعية
وهو
من الفنانين اللامعين في مجال الكاريكاتير، وقد عاش حياة البؤس والشقاء، عاش سنوات
طفولته الأولى في مرسيليا، ثم انتقلت عائلته إلى باريس، وكان أبوه يعمل في صناعة
الزجاج، ولكنه كان يتوهم أنه شاعر ويطمح أن يكون كذلك، وفي باريس تراكمت الديون
على العائلة، فاقترح الأب على الصبي أن يعمل، فالتحق بمكتب محام سليط اللسان كثير
الشجار، وفي مكتب هذا المحامي اطلع دومييه من خلال الملفات على الحياة الأخرى
للبشر، وقرأ في وجوههم الآلام والمآسي، فتعاطف معهم وكره القضاة القساة والمحامين
المرائين، وترك تلك المهنة، ومن جديد بحث له الأب عن عمل آخر يوفر قوت الأسرة،
فألحقه للعمل كبائع بإحدى المكتبات، لكنه لم يوفق، فقد طرده صاحب العمل عندما وجده
يقرأ كتابا. بعد هذا الطرد جاء قرار دومييه النهائي.. أن يختار لنفسه مهنة يحبها..
والتحق كمصور ورسام بمرسم الكسندرلينوار، واضطر إلى العمل، إلى جانب تعلمه للرسم،
حيث أتقن حرفة عالية إلى جانب موهبته وذكائه الحاد في التقاط موضوعاته التي زاوج
فيها بين اللوحة الفنية والكاريكاتير السياسي الحاد الذي قاده إلى السجن، وارتبطت
أعماله بتاريخ المرحلة التي عاشها وصورها ببراعة، في نحو مائتي لوحة فنية وأربعة
آلاف رسمة هزلية ساخرة وعدد من التماثيل المنوعة. وجاءت البداية الحقيقية له
كفنان، عندما علمه صديقه راميليه أساليب الحفر الحجري، فكانت تلك المهنة هي التي
وفرت له لقمة العيش، فبالحفر الحجري أمكنه التصوير للجرائد ولأعمال الدعاية
وللروايات العاطفية.. ثم انضم إلى جريدة الكاريكاتير المعروفة بهجماتها على الحكم
في فرنسا عام 1831م، وسرعان ما أصبح دومييه ضمن مجموعة المهاجمين خاصة عندما انقلب
لويس فيليب على الدستور الذي أقسم على احترامه، فراح دومييه يرسم له صوراً متعددة
وساخرة، واستمر في رسم الرسوم اللاذعة والتي تثير الغضب إلى أن صدرت الأوامر
بالقبض عليه وتقديمه إلى المحكمة التي حكمت عليه بالسجن ستة أشهر ودفع مبلغ مالي
كغرامة، مع لفت نظرة بالكف عن التطاول على الملك، لكنه استمر في رسم هذا النوع حتى
بعد خروجه من السجن إلى أن فرضت الرقابة على الصحف عام 1836م، لذلك اتجه دومييه
الى تصوير آلام ومشاكل الناس البسطاء وتصوير حياتهم الاجتماعية التعسة برسوم
تهكمية تنتقد الوصوليين وحاشية لويس فيليب.
قدم
سلسلة من الأعمال تحت عنوان "رجال العدالة" ينحت فيها ملامح القضاة
والمحامين ووكلاء النيابة. وكلها صور تميل إلى إبراز القسوة والدمامة، وتبدو كأنها
مرسومة على عجل، علاوة على اعتمادها على الأبيض والأسود بالأساس.
وفي
خلال ثلاثين عاما مع الرسوم التهكمية تعرف على العديد من نجوم عصره، أمثال بلزاك -
الذي عمل معه لفترة في مجلة الكاريكاتير- وكذلك اتصل ببودلير وجوتيه وفيكتور هوجو
وصديقه الفنان كورو. وفي الثانية والخمسين من عمره استغنت مجلة الضجة عن خدماته
بعد ربع قرن من التعامل معه بحجة أن الجمهور لم يعد بحاجة إلى رسومه الانتقادية، و
لم تراع إدارة المجلة ما بذله من جهد طيلة سنوات شبابه، ثم بدأ المرض يُضعف جسمه
وبصره إلى أن توفي وهو فقير معدم.
يعتبر
دومييه أول من استخدم الصورة الكاريكاتيرية كشكل إعلاني مستقل، كانت له القدرة على
الجمع بين القيمة الفنية والقيمة الفكرية وفن الكاريكاتير الذي يأخذ أهميته من
جماليات الخطوط والأفكار المبتكرة والموقف الشخصي أو الاجتماعي أو الإنساني
للفنان. وأسلوبه واسع جدا ومتنوع، وقد يكون رسمه حادا وصارما عندما يصف اللا
إنسانية، ويكون ناعما ورقيقا عندما يستلهم الإنسانية، وأسلوبه يشبه أسلوب رامبرانت
ولكن ببساطة أعمق، وهو أسلوب يكشف في الناس الشيء الأكثر عمومية فيهم والذي يربطهم
بالآخرين، وربما يستحيل جعل الفن أكثر بساطة من هذا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire