أعلان الهيدر

الرئيسية العلم بين الحقيقة والنمذجة

العلم بين الحقيقة والنمذجة


العلم بين الحقيقة والنمذجة
العلم بين الحقيقة والنمذجة
*الإشكالات النظرية التي تثيرها مسألة النمذجة:
- إنّ النمذجة كما النموذج مصطلحات حديثة في مقاربة العلم وهو ما يجعلها مسألة ملتبسة تحتاج الكثير من النظر والدقة المفهومية خاصة في علاقتها بجملة من المفاهيم المجاورة على غرار البراديغم أو النموذج الإرشادي، أو مفهوم المثل الأعلى العلمي، أو مفهوم المثال الأفلاطوني...فما المقصود بالنمذجة وأي دلالة للنموذج وأي منزلة له في الفكر العلمي؟ هل يعد مجرد انعكاس لواقع معطى أم أنّه إنشاء لواقع لا يتحقق إلا بالقطع مع المعطى؟ هل تمثل النمذجة مجرد مسار أو منهج أو طريقة يتبعها العلماء في بحثهم ليكون بذلك وسيطا نفوض له وظيفة المعرفة أم أنّه مجرد إجراء لتجسيد المعرفة في صور أو رسوم أو بيانات فيزيائية كانت أو مجردة؟ أم أنّ النمذجة لا تعد طريقة علمية وإنّما طريقة تستعمل العلم؟ وإذا سلمنا بأن النمذجة هي السمة المميزة للعلم اليوم فأي علاقة لها بالمنهج التجريبي في دلالته الوضعية من ناحية وبالباراديغم الوضعي أو الخبري أو الواقعي من ناحية أخرى؟ هل يمكن النظر إلى النمذجة بما هي امتداد للعقلانية الكلاسيكية أم بما هي إعلان عن براديغم جديد مغاير في مبادئه ومعاييره ونتائجه؟ وإذا أخذنا بعين الاعتبار بنية النمذجة أو أبعادها التركيبية والدلالية والبراغماتية، فكيف نفهم العلاقة بين الجانب التركيبي الذي يحيل على الطابع الصوري للنموذج والجانب الدلالي الذي يحيل على علاقة النموذج بالواقع والتجربة والتوقع والتفسير؟ هل أن الواقع هو ما يمثل أساس إنتاج البنية التركيبية للنموذج ليكون الحدس هو منطلق هذا البناء أم أنّ البعد التركيبي يتشكل صوريا ثم يجد مجال انطباقه في الواقع؟ وأي دور ومعنى للتجربة حين يتعلق الأمر بالبعد الدلالي؟ هل تحافظ التجربة على دلالتها الكلاسيكية بما هي ملاحظة مجهزة ومجال إثبات النظرية أم بما هي تجربة افتراضية أو اصطناع يتم بوساطة الحساب الرقمي [الحاسوب] ؟ وأي علاقة بين النموذج والنظرية؟ هل يعد النموذج مجرد تجسيد للنظرية العلمية أم أن النموذج يتماهى مع النظرية؟ أم أن النموذج نظرية ذات بعد عملي؟ أم ينبغي النظر إلى هذه العلاقة جدليا بحيث لا ينتج العالم نموذجه إلا وفق تصور نظري ما قبلي وأنّ النموذج من شأنه أن يعدل النظرية أو يدفعها إلى مراجعة مبادئها ومسلماتها ومفاهيمها؟ ثم هل من معنى للموضوعية في النمذجة والحال أنّ علاقة الذات بالموضوع لم تعد "محايدة" على معنى الموضوعية الأنطولوجية، في مقابل الحديث عن علاقة تفاعلية بين الملاحظ وموضوعه، هي من جنس العلاقة الفينومونولوجية حيث لا يدعي المنمذج أنه يصف الواقع كما هو وإنما يصف الواقع كما يتمثله؟ وكيف نفهم علاقة النموذج في جانبه التركيبي والدلالي بالجانب البراغماتي؟ هل يفيد هذا الجانب بأن العلم قطع مع القطع مع الغائية؟ هل انتهى إلى إعلان علاقته بالغائية على وجه الملأ ليجعل زيجته بها شرعية حتى وإن لم تكن مشروعة، ليقطع بذلك مع علاقة سرية ارتبط بها بالغائية إذ على حدّ عبارة جاكوب كانت علاقة العلم بالغائية شبيهة بعلاقة رجل بامرأة يريدها ويعاشرها دون أن يريد لعشرته معها أن تظهر للعيان. وأي دافع لعودة الروح لمثل هذه العلاقة؟ أو لصالح من؟ هل أن مثل هذا التحول يهدف إلى تحقيق ضرب من المصالحة بين الواقع العلمي والواقع الإنساني تجاوزا للطابع الجاف والمجرد للعلم أم أنّه إعلان عن علاقة عضوية بين العلم ورأس المال تجعل من النجاعة بدل الحقيقة ومن التحكم بدل التفسير القيمة الأسمى للعلم؟ ألا يمكن وفق هذا القول أن نشكك في الطابع العلمي للنمذجة؟ ألا يمكن القول بأن النمذجة ليست مجال اشتغال العلماء وإنّما مجال اهتمام المهندسين ومكاتب الدراسات والخبراء ورؤساء الأموال حتّى إن اعترفنا باعتماد العلماء على النماذج لتوضيح نظرياتهم؟ وبالتالي ألا ينبغي النظر إلى النمذجة لا من جهة أنها مسار علمي حتمه التطور العلمي وطبيعة الظواهر المركبة وإنما من جهة أنها تدعي العلمية لتخفي طابعها الإيديولوجي وتضفي مشروعية على أفعالها؟
2 - دلالة النموذج والنمذجة:
يعرّف النموذج حسب فاليزار" بما هو كل تمثل لنسق واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا، يتم التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية" كما يعرّفه دوران بقوله" يشمل معنى النموذج في دلالته الأكثر اتساعا كل تمثل لنسق واقعي مهما كان شكل هذا التمثل". والنمذجة وفق هذا التحديد هي التمشي المنهجي الذي يفضي إلى إنتاج النموذج والذي يعني التمثل لكائن ما يوجد في الواقع ولكيفية اشتغاله، وتفترض النمذجة أنّ كلّ كائن هو بمثابة منظومة تشتغل على نحو ما، ليكون النموذج منزلا ضمن حقل الفكر النسقي وهو ما يعبر عنه فاليزار بقوله " لا ينفصل مفهوم النسق في الحقيقة عن مفهوم النموذج منظورا إليه كنسق تصوّري لنسق واقعي. وكل نسق واقعي لا يعرّف إلا بالعودة إلى نماذج تصورية (التصورات الذهنية أو التصورات الصورية) وعلى العكس من ذلك فإن كل نموذج يمكن اعتباره نسقا خصوصيا أيا كانت طبيعته فيزيائية (maquette) أو مجردة (ensemble de signes) "
يجد النموذج أصوله في التقنية، ويفيد الرسم الهندسي أو الموضوع المختزل في مثال مصغر أو في شكل تبسيطي والذي ينتج المشروع (الموضوع) ويعبر عنه، إذ يمكن أن يخص بعمليات حسابية أو اختبارات فيزيائية لا يمكن تطبيقها على الموضوع ذاته، لذلك اتخذ النموذج طابعا منهجيا، إذ يشير إلى كل الصور أو الإنتاجات التي تخدم أهداف المعرفة.
إنّ الوقوف على الدلالة الجديدة للنموذج تقتضي تمييزه عن دلالات تبدو مجاورة ولكنها مغايرة:
ينبغي أن يفهم إذن من كلمة نموذج وحدة معرفية أو إدراكية مستقلة تعبّر عن نفسها في شكل علاقات صورية بين مقادير. وانطلاقا من مجموع الفرضيات يسمح النموذج من استخلاص أو اشتقاق جملة من النتائج أو الاستتباعات في صورة نسقية (البعد التركيبي). أما من الناحية التجريبية فيكون للنموذج منزلة ابستيمولوجية هجينة، إذ لا يمكن النظر إليه بما هو نتاج نظري خالص، ولا أيضا بوصفه حصيلة ملاحظات. إنّه ينشئ أيضا حقلا من المفاهيم (موضوعا مفهوميا) مرنا قابلا لمسار متدرج للتعديل (البعد الدلالي). ومن الزاوية الإجرائية فإنّ للنموذج منزلة عملية أو تطبيقية أصيلة بما أنّه يضم عناصر وصفية وأخرى معيارية، تسمح له أن يكون فاعلا وناجعا وقادرا على تحقيق الغايات التي حكمت إنتاجه (البعد التداولي).
إذا اعتبرنا أن النمذجة هي بمثابة مسار إجرائي للمعرفة، وأن النموذج هو وسيط نفوض له وظيفة المعرفة، فإننا نكون إزاء دلالة جديدة للنموذج بما هو تمثيل للمعرفة، وهو ما يقتضي منا أن نبلور معنى النمذجة بما هي مسار يسمح بإنتاج النماذج بضبط خطواتها، فكيف ننمذج؟
يمكن تعريف النمذجة العلمية بما هي قدرة على إنتاج نماذج قوامها وعي الفكر العلمي بطبيعة نشاطه العرفاني بما هو صانع نماذج مرتبطة بسياق اجتماعي محدّد. كما تفيد جملة المراحل التي يمر بها الباحث لبناء نموذج ما انطلاقا من المنظومة الملاحظة والتي يمكن اختزالها في:
ـ رسم الحدود الدقيقة للنسق المزمع نمذجته.
ـ التعرف بدقة على عناصر النسق وتصنيفها بحسب خصائصها.
ـ اختيار لغة ما لتمثل هذه العناصر وكيفية تفاعلها (لغة أدبية، إيكونوغرافية أو منطقية/ رياضية).
ـ اختبار النموذج بتشغيله افتراضيا لتعديله عند الاقتضاء.
ـ ضبط الأهداف التي يرجى تحقيقها من إنشاء النموذج في علاقة بسياق ما.
ـ يمكن للباحث في الأخير إمّا تعميم هذا النموذج على أكثر من منظومة أو أن يبني منظومة أكثر تجريدا بواسطة الاستقراء وهو ما يعني أنّ النمذجة مشروع مفتوح.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.