القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية بين كولن وكانط
إن "الفلسفة الإنسانية تضع الإنسان -كفرد وكمجموع وكنوع وكشكل للوجود-
في مركز اهتمامها؛ ولذلك كان أكثر ما تنادي به الفلسفة الإنسانية هو أن الحياة الإنسانية
بشكل عام وحياة كل إنسان بشكل خاص- تتضمن شكلاً من أشكال القيمة الإنسانية المتأصلة،
واحترام هذه القيمة الإنسانية المتأصلة -في العديد من النظم الإنسانية- يشكل المنطلق
أو الأساس للمبادئ الأخلاقية الأساسية. ولم يؤكد أحد على هذا المعنى بقوة واتساق أكثر
من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي عاش في القرن الثامن عشر؛ فقد حاول في كتابه
"أسس ميتافيزيقا الأخلاق الذي نُشر عام 1785 التعبير عن "المبدأ الأسمى
للمبادئ الأخلاقية .
وقد قصد كانط التعبير عن هذا المبدأ من الناحية العقلانية البحتة -وليس
الإمبريقية (التجريبية)- حتى لا يُفهم أن الأفعال الأخلاقية تعتمد على الأحوال أو المشاعر
أو الأهواء أو الظروف الإنسانية. ولا يتسع المجال هنا لتناول مزايا طريقة كانط أو استنتاجاته
فيما يتعلق بالأخلاقيات العقلانية في مقابل الإمبريقية أو لتلخيص أفكاره وأطروحاته
بشكل كافٍ، لذا سنركز على تلك النقاط الأكثر ارتباطًا بمناقشته لموضوع البشر كغايات
في ذاتهم وبالتالي أصحاب قيمة متأصلة لا يجب المساس بها.
وترتكز جدلية كانط في كتاب "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" على ثلاثة
مفاهيم محورية وهي: العقل والإرادة والواجب، وقد ربط كانط بين هذه المفاهيم الثلاثة
بطريقة محددة للغاية، وتنقّل من مفهوم إلى آخر بشكل منطقي حتى يشكل السياق العام لفلسفته
الأخلاقية. ويبدأ كانط بالإرادة، فالإرادة -وخصوصًا الإرادة الصالحة- شيء مطلوب في
أي مفهوم عن المبادئ الأخلاقية، وهذا ما يؤكده كانط في أول جزء من مؤلفه، فيقول:
"ليس ثمة احتمال على الإطلاق بالتفكير في أي شيء في العالم -أو حتى خارجه-
يمكن اعتباره صالحًا بدون مسوغ لذلك إلا الإرادة الصالحة، فالذكاء والفطنة وحسن التمييز
وكل ما يرغب المرء في ذكره من المواهب العقلية هي بلا شك صالحة ومرغوبة من نواحٍ عديدة،
تمامًا كالصفات المزاجية مثل الشجاعة والعزم والمثابرة. لكنها قد تكون أيضًا سيئة وضارة
للغاية إذا كانت الإرادة -التي يفترض أن تستفيد من هذه المواهب الطبيعية والتي في قوامها
الخاص تسمى الشخصية- غير صالحة... فرؤية كائن لا يتحلى بلمسة من الإرادة الصالحة والنقية
لكنه يتمتع بحالة من النجاح المتواصل لا يمكن أن يسعد المشاهد العقلاني المتجرد. وبناء
عليه، فإن الإرادة الصالحة يبدو أنها تمثل الشرط الذي لا غنى عنه حتى لاستحقاق الشعور
بالسعادة .
لا يمكن، إذن، أن يوجد شيء صالح من دون الإرادة الصالحة، بغض النظر عن
المواهب والقدرات الأخرى التي قد يمتلكها الفرد؛ فالإرادة الصالحة هي حالة أساسية للشخصية،
ولا غنى عنها في السلوك الأخلاقي.
ويواصل كانط تحليله بالانتقال إلى مفهوم العقل، فهو يرى أن العقل هو ما
يفرق البشر عن الحيوانات بشكل عام، لكن العقل -بتحديد أكبر- يعمل في البشر بطريقة توضح
اختلافًا أساسيًا أكبر بين البشر وغيرهم من الكائنات الحية. ويتناول كانط المبدأ القائل
إن الطبيعة تضع التكوين الخاص بكل كائن معقد بحيث لا يوجد أي عضو في الكائن لا يحقق
هدفًا، وبحيث يكون هذا العضو وحده هو الأصلح لتحقيقه بأعلى وأفضل الإمكانيات. وبعبارة
أخرى، كل عضو له هدف وهو يحقق هذا الهدف أفضل من أي عضو آخر في الكائن الحي. وينظر
كانط إلى العقل باعتباره نوعا من الأعضاء، ويتساءل عن الهدف الذي يحققه للحياة الإنسانية،
فيقول:
"والآن، لو كانت المحافظة على هذا الكائن أو رفاهيته أو -باختصار- سعادته
هي الغاية الحقيقية للطبيعة في حال امتلاك العقل والإرادة، لكانت الطبيعة قد اختارت
ترتيبًا سيئًا للغاية في جعل عقل هذا الكائن يحقق ذلك الهدف، لأن جميع الأفعال التي
يتعين على هذا الكائن القيام بها في ظل هذا الهدف وكذلك القاعدة العامة لسلوكه، كانت
ستُفرض بشكل أكثر صرامة من خلال الغريزة، ولكان تحقيق الهدف المقصود يتم بالغريزة أكثر
مما يتم بالعقل".
هنا يؤكد كانط على أن تحقيق السعادة بمفهومها الذي يدور حول المحافظة
على بقائنا أو رفاهيتنا ليس وظيفة العقل لدى البشر أو الكائنات التي تمتلك العقل والإرادة؛
فالرفاهية أو البقاء أو السعادة يمكن تحقيقها بالغريزة مثلما يمكن تحقيقها بالعقل إن
لم يكن أفضل، حيث إنها توجد لدى الحيوانات أيضًا. ولذلك يقول كانط: "إن للوجود
هدفًا آخر أهم بكثير خُلق العقل من أجله، وليس من أجل السعادة". وينتهي كانط إلى أن الهدف من العقل هو إنشاء الإرادة
الصالحة، فيقول: "يعتبر العقل أن أعلى وظائفه العملية هي إنشاء الإرادة الصالحة،
والتي من خلالها يكون العقل فقط قادرًا -في سعيه لتحقيق تلك الغاية- على الوصول إلى
نوع الإشباع الخاص به".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire