أعلان الهيدر

دلالات الخلافة


دلالات الخلافة
دلالات الخلافة
لا يخفى على ذي بصر ما يحمل مفهوم الخلافة بين طياته من معنى التكريم المقدم على بساط من المسؤولية: تكريم استشرفته الملائكة وهي تقول: "ونحن نسبح بحمدك وتقدس لك" (البقرة:30)، ومسؤولية عرضت على السماوات والأرض والجبال "فأبين أن يحملنها وأشفقن منها" (الأحزاب:72)، وقد أثبت القرآن حقيقة التكريم فقال: "ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء:70) ونطق بها حال الإنسان: من حيث تزويده "بمواهب الخلافة"، ومن حيث تسخير الكون له، مسرحا لإعمال تلك المواهب، ومجالا لعملية التغيير المرجوة، و"أرض الميعاد" للإبداع الإنساني المنتظر، "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الجاثية:12).
ويبلغ التكريم ذروته في سجود الملائكة، إذ هو يتضمن تفضيل المسجود له على الساجد، ومن ثم فالخلافة درجة وجودية عليا بين المخلوقات يؤكدها:
- -الأمر بسجود الملائكة "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" (البقرة:34)
- - استشراف الملائكة لهذا المركز استشرافا استبطنه قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" (البقرة:30).
- -حقد إبليس على الإنسان ورفضه للسجود لئلا يقر له بالأفضلية، "إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" (البقرة:34).
وأما المسؤولية، فلها مستويان:
مسؤولية مع "المستخلِف" هي العبودية، يؤسسها الوحي ويرعاها، وما الرسالات إلا صُوًى تنظم طريقها. وهذه العبودية بشتى أجزائها و مقوماتها قد صبغت بصبغة الحرية، وعليها انبنت، انطلاقا من الوحي الذي يؤسسها، وانتهاء بالجزاء الذي يتوجها. فالوحي اعتراف عملي بحرية هذا الإنسان المستخلف، يترسّخ ويتأكد بسمات الخطاب الإلهي في محاورته للعقل البشري من خلال الإدلاء بالحجة أو المطالبة بها، وتصل بعدها الأسنى في خطب ود الإنسان وتثمين رضاه "رضي الله عنهم ورضوا عنه" (البينة:8)، "فاذكروني أذكركم" (البقرة:152).
ومسؤولية مع "المستخلَف فيه" استثمار وتغييرا وتطويرا، يرعاها العلم، وتضمنها مقومات الإنسان المتعددة، تعطيه موهبة الحياة على مستويات مختلفة، وتمكنه من تذوق أنواع شتى من كؤوس الوجود ومشاربه، وتكثر من روابطه بالحياة تعميقا لدوره فيها تأثيرا و تأثرا. فالكون كتاب صفحاته الفعل الإنساني، وأجداث روحها عمله الذي لا ينقضي، لا يصلحه إلا التطوير والتغيير كالماء إذا ركد أسن، والإنسان وحده هو المؤهل لذلك بما اختص به من قابلية التغير و التغيير عبر عقل مستفيد وإرادة حرة منطلقة.
وكأني بهذا المعنى هو الذي عناه الله بإجابته عن سؤال الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" (البقرة:30)، قال: "إني أعلم مالا تعلمون" (البقرة:30)، أعلم من قدرات الإنسان ما لا تدركون، وأراد إقامة الحجة فعلمه "الأسماء"، فجاء بما لا تستطيعه الملائكة، فأذعنوا لحكمة الله، وسلموا لهذا الإنسان بأحقيته بالخلافة فسجدوا.
ونختم هذا العنصر برصد بعض الدلالات وتقديمها في الجدول التالي تقريبا لجناها، ولا ندعي الإحاطة وإنما أردناها دليلا على غيرها:
تبعات الاستخلاف:
محور عملية الخلافة حسن تمثل صفات المستخلف، وذلك عبر مسيرة طويلة من التغير والتغير سعيا إلى الأكمل، يرحل فيها الإنسان من إبداع إلى إبداع، موقعا في التاريخ بأفعال لا يفتر عنها تجاوزا للقائم، لا يضع عصى الترحال بحثا عن الأمثل يحدوه قوله تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا واشربوا من رزقه وإليه النشور".
فالخلافة صيرورة إنسانية لا تتوقف، تنهل من قاموس التغيير كـ" العمل"، و"البحث" و"الكشف" و" الاختراع"، وغيرها من أخواتها الكثيرات التي جافينها برهة من الزمن فجافانا التقدم، لما أشهرنا كلمات قاتلة مثل"ليس في الإمكان أبدع مما كان" أو "لم يترك الأول للأخر شيئا". فوقفنا، بل تراجعنا لأنه "لا ثبات" فإما حركة إلى الأمام و إما إلى الوراء، وشهد الزمان وكله عجب، رحلتين متضادتين في الاتجاه، واحدة متسارعة إلى الأمام على وقع القاطرة البخارية، فالطائرة، فالصاروخ… بينما تهوي الأخرى إلى مجاهيل من التعطيل و التخلف، لولا بقية من الذين لم تصبهم تلك الشعارات بـ" العشى"، فراحوا يحاولون كبح جماح "رحلة التراجع" والتقليص من أضرارها، لينجحوا بعد لأي في تغيير وجهتها، وتنطلق عملية البناء. عملية لم تستلهم إلى الآن على الوجه الأمثل معنى الخلافة في الأرض، فحرموا القوة على "الاندفاع التاريخي".
وأعود إلى تعجب الملائكة من جعل الإنسان خليفة، ذلك التعجب الذي أخفى أمرا كتموه في أنفسهم ألا وهو أحقيتهم بالخلافة، وذلك لما ظنوا أن "مؤهل استحقاق" الخلافة وجوهرها يكمن في الإكثار من الذكر والتسبيح، وهم من هذه الناحية أجدر من الإنسان" ونحن نسبح بحمدك و نقدس لك"، فتأتيهم إجابة الله حاسمة أنه زوّد آدم بأساس فاق به الملائكة تمثل في قابليته "للعلم"، فكانت بذلك مسيرة علم، هو "تأشيرة" خلافته لربه.
تجليات الخلافة:
إن من أظهر ما يميز الإنسان عن الحيوان- رغم اتفاقهما في أكثر"الدوافع"- طرق "الاستجابة" لهذه الدوافع، إذ هي تختص عند الإنسان بأمور منها:
أ- تعدد الطرائق: فالإنسان لا يتخذ في تحقيق مبتغاه سلوكا واحدا، وإنما يختلف هذا السلوك من فرد إلى فرد، كما يختلف بالنسبة للفرد الواحد من حالة إلى حالة.
ب- التصنيع: فالإنسان لا يأخذ الأمور على حالتها الخام، وإنما يغيرها من فترة إلى فترة، ومن مكان إلى مكان.
واقتصرت على هذين الخاصيتين لما توحيان به من ضرورة تغير واقع الإنسان، مادام" يعدد طرائق "استجابته" ومادام "يُصنّع" و"يُغيّر" الأمور من حالتها الخام، وهذه الأفعال هي بعض تجليات "الإنسان الخليفة". "فقد ظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض، ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات، وفي البر والبحر والهواء، فهو يتقن ويبدع ويكتشف ويخترع ويجد ويعمل، حتى غير شكل الأرض. فجعل الحزن سهلا، والساحل خصبا، والخراب عمرانا، والبراري بحارا وخلجانا، وولد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن، وقد تصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية… أليس من حكمة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض: يقيم سننه، ويظهر عجائب صنعه

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.