المواطنة و مفهوم العولمة
المواطنة و هي كلمة في العربية مأخوذة من الوطن و هو المنزل أو البلد أو مكان
الإقامة و ترتبط عموما بحق العمل و الإقامة و المشاركة في الحياة السياسية في دولة
ما، أو هي الانتماء الى مجتمع واحد يضم أفراده بشكل عام رابط اجتماعي و سياسي
وثقافي موحد في دولة معينة. و تبعا لنظرية “جون جاك روسو” في العقد الاجتماعي :
“المواطن له حقوق انسانية يجب أن تقدم إليه و هو في نفس الوقت يحمل مجموعة من
المسؤوليات الاجتماعية يلزم عليه تأديتها.”
و
تعد المواطنة من المفاهيم التي أشيع استخدامها هذه الأيام في الأدبيات السياسية و
الاجتماعية و في أوساط المجتمع المدني خاصة دون أن تحظى في الوقت ذاته بكثير من
الشرح والتفسير،إذ تبقى لدى كثير من المثقفين مفهوما مبهما يتكيف في الأذهان وفقا
لمعطيات البيئة السياسية و الثقافية التي يعيش فيها المتلقي. اضافة إلى الظلال
التي تضيفها التكييفات المختلفة التي تقدمها العديد من الأنظمة السياسية في
المنطقة والعالم. فهذا المفهوم يرتبط أحيانا “بالولاء لنظام معين” و أحيانا
“يالمواطنين الأصليين”دون غيرهم و أحيانا أخرى بمعان عنصرية تتنافى مع المفهوم
المعتمد في السياق الحقوقي.
و قد
تطور هذا المفهوم في عصر العولمة و التطور التكنولوجي الهائل، ووسائط الإتصال
المتعددة، من المفهوم الضيق للمواطنة إلى مفهوم المواطنة الكونية أو المواطنة
المعولمة.
و
المواطنة العالمية أوالكونية شعور بالإنتماء إلى مجتمع أرحب يتخطى الحدود
الجغرافيةو الوطنية إلى شعور يبرز القاسم المشترك بين البشر و يتغذي من أوجه
الترابط بين المستويين المحلي و العالمي والمستويين الوطني والدولي. وقد اكتسب
زخما كبيرا في اطار قضايا التنمية منذ اتخاذ الأمين العام للأمم المتحدة المبادرة
العالمية بشأن “التعليم أولا” في عام 2012 التي إعتبرت تعزيز ” المواطنة العالمية”
أحد مجالاتها فالمواطنون العالميون هم الأفراد الذين يسعون في طريقة تفكيرهم
وسلوكهم إلى بناء عالم يتسم بمزيد من العدل و السلام و مقومات البقاء. والتقدم في
نشر المواطنة الكونية لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار البنية المادية للمواطنة و
دلالاتها المتعددة ( المعرفية والقانونية والقيمية والسياسية و التربوية و
الاجتماعية). إلى جانب قيمة العمل و القيم الأخلاقية.
فالتشبع
بالمعاني القيمية للمواطنة والمدنية و التحضر و تكوين أجيال تضمن البقاء و الاستمرار
في الدفاع عنها و الوصول بالمشروع الحضاري حتى نهايته، يتوجب أخذ الدروس اللازمة
من التجارب و الملاحم التاريخية و الإطلاع على الفلسفات السياسية و الحركات
الاجتماعية و الحضارات المتنوعة.
-هناك، فيما نتصور، أربع معطيات جوهرية تجعل من علاقة العولمة والمواطنة
“العالمية” علاقة تضاد وممانعة أكثر منها علاقة التقاء وتكامل:
- المعطى
الأول ويتمثل في التوجه المستمر والمتسارع للعولمة في تدمير المقومات الكبرى التي
ارتكزت عليها الدولة/الأمة في تشكلها وفي صياغة آليات اشتغالها.
ليس
التلميح هنا فقط إلى منحى السياسات العامة التي تستهدف تقليص حجم ودور الدولة إلى
ما نادى به، منذ قرون، فقهاء الاقتصاد السياسي الليبرالي، ولا فقط إلى منطق اقتصاد
السوق الخالص الذي يدفع به فاعلو العولمة، ولكن أيضا إلى ممارسات الشركات الكبرى
التي تتقدم لديها، عكس المواطنة، مبادئ الواجبات على مبادئ الحقوق سيان عندها في
ذلك أكان فضاء الاشتغال عالميا واسعا أم محليا/إقليميا أقله سعة واتساعا.
من
هنا، فبقدر ما تزداد واجبات الأفراد والجماعات (في العمل وضرورات “التأقلم
والانضباط” وغيرها) بقدر ما تتقلص حقوقهم وتضيق (في الحصول على عمل كما في ضمان استمراره
واستمرار الضمانات المترتبة عليه).
من
حكم الثابت، في هذه النقطة، أن تراجع الدولة/الأمة (بتقدم فاعلي العولمة وأدواتها)
هو تراجع حتمي للمواطنة ليس فقط لأن
الدولة/الأمة هي الساهر على المواطنة وضامنها الأسمى، ولكن أيضا لأن لا مصداقية
لمواطنة يضمنها منطق السوق ويتكفل بصيانتها فاعلوه، إذ قصور “مواطنة السوق” هو من
قصور السوق واقتصاد السوق على إفرازها وتجذيرها.
ومعنى
هذا أنه ما دامت الدولة/الأمة، بكل دول العالم، هي راعي المواطنة وضامنها، فإن
تراجعها (بجهة تحجيمها إلى وظائف شكلية) هو حتما تراجع لذات المواطنة وتحجيم لها.
- المعطى
الثاني ويكمن في الاتجاه المتسارع والحثيث لظاهرة العولمة باتجاه تقويض المرافق
الكبرى التي يعتبر وجودها واستمرارها من وجود واستمرار مبادئ المواطنة نفسها.
قد
لا يكون الأمر هنا مثال إشكال كبير لو كان مقتصرا على جوانب من الخوصصة تطال بعضا
من ” قطاعات المواطنة” (كالتعليم والتربية والصحة وغيرها)، وقد لا يكون مكمن تخوف
كبير إذا كان بهدف تحسين أداء القطاعات إياها (وتحسين دور الدولة من خلالها)، لكنه
يتعدى كل هذا وذاك حينما يطال المرفق العام كفلسفة لمساواة الأفراد والجماعات لا
قائمة تذكر للمواطنة في الارتداد عنها.
لم
يقتصر استهداف العولمة، في هذا الاتجاه، على المجال الاقتصادي والاجتماعي الذي
يعتبر ” دخيلا” على المواطنة بل تعدى ذلك إلى الجانب السياسي والمدني الذي لطالما
أسس لجوهر المواطنة وكرس لمختلف أبعادها.
- لن يختلف الأمر كثيرا بين ما
سبق من حديث وما هو قائم كواقع حال:
-
فالعولمة هي، في أكثر من جانب، انصياع
للسياسي (وفي خضمه المواطناتي) للأبعاد التقنواقتصادية التي لم تفتأ الدول الكبرى
وشركاتها المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية والتجارية العالمية تدفع بها.
لا
يقتصر الأمر على هذا المستوى، بل يتعداه إلى هيمنة المالي على الاقتصادي
والاجتماعي والسياسي (وفي صلبها جميعا المواطناتي) دونما اعتبار يذكر للدولة أو
للحكومات أو للسيادة والحدود.
- أي مواطنة “عالمية” إذن هاته التي تدفع بها العولمة
وينظر لها بامتياز منظروها؟
إنها مواطنة العولمة التي تندغم في منظومتها باقي منظومات الاقتصاد
والسياسة والمجتمع والثقافة…أي مواطنة الواجب لا الحق…مواطنة التلقي لا المشاركة،
مواطنة الانضباط لا الفعل…أي المواطنة التي تسير وفق تصور منطق تراكم رأس المال
وتعمل وفق ما يرضاه فاعلو العولمة ويرتضوه.
بالتالي، فالعولمة لا تقبل بمنظومة للمواطنة دخيلة عليها (كما يراد
للمواطنة الحالية أن تكون). هي تريد مواطنة تناسبها، تنصهر في منظومة قيمها،
تسايرها، تفتح لها الطريق وتهيكل لها فضاءها العام… السياسي منه والاقتصادي
والاجتماعي والثقافي.
هي تريد فضاء عاما تسود بداخله ” قيم” السلعة وواجبات (لا حقوق)
اقتنائها، ” قيم” الامتثال لا قيم التشاركية والحوار، قيم العالمي غير الواضح لا
قيم المحلي الملموس.
فهي لا تستهدف قانونا للسيادة، بقدر استهدافها لقانون في التبادل
الحر…بالتالي فهي لا تخشى في عمليات الاحتجاج والمناهضة جوانبها الفئوية بقدر ما
تخشى أبعادها المواطناتية التي لم تعد تكتفي بمبادئ الديموقراطية العامة بقدر ما
أصبحت تطالب بمبادئ جديدة لبناء ديموقراطية للقرب.
لن يكون من هنا، بهذه النقطة كما بغيرها، من تمييز يذكر بين المواطنة
“المحلية” والمواطنة “العالمية”، بل سيتحول الأمر برمته إلى أممية احتجاجية شاملة
تتغيأ التأسيس لمواطنة عالمية واحدة…بديلة
عن ” مواطنة العولمة”.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire