الصلاة ركن الإسلام الأول
إن الله تعالى قد صمم الإنسان خصيصاً ليتوافق مع شرعه ومنهجه، إذا
التزم به هدى وسعد في الدارين، وإذا انحرف عنه ومال إلى غيره شقي وضل في الدارين،
يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
فالتشريع الإلهي بمثابة الكتالوج الذي وضعه مخترع الآلة لمن يريد أن
يحسن التعامل معها، ولله المثل الأعلى، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، أي جعلهم مخلوقين لهذه الغية، مجبولين عليها، مهيئون
لها، فأنت حين تلبي أوامر الله بلإتيان أو بالمنع على حد سواء، تشعر حينها
بالسعادة والغبطة الداخلية التي يعجز اللسان أحياناً عن وصفها، وقد أجملها بعض
السلف في جنة الدنيا، وعلى النقيض من ذلك يشعر المنحرف بالأسى والحزن وينتابه
التوتر والقلق من جراء مخالفته لقوانين فطرته.
إذا أردنا أن نبحث مجتهدين في حكمة مشروعية صلاة الجماعة وأسرارها،
يكون لزاماً علينا أن نذكر سبب الأسباب وغاية الغايات والحكمة العليا التي من
أجلها خلق الله تعالى الخلق، وهي عبادته جل في علاه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى:
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا .
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا
صَعَدًا} [الجن: 16، 17].
ومن وراء هذه الحكمة العظيمة تتجلى فوائد وأسرار التكاليف التي كلف
الله بها هذا الإنسان المنوط بعمارة الأرض وخلافتها، فقد جعل الله تعالى لهذه
التكاليف أسراراً ومردودات تضفي على ذلك الإنسان جانباً من القوة والسلامة النفسية
والبدنية والاجتماعية، التي تعينه وتمكنه من أداء مهمته في هذا الكون الفسيح،
فالله تعالى لا ينال شيئاً من انحنائات المصلي ولا سجوده ولا قيامه، ولا يناله
شيئاً من امتناعه عن الطعام والشراب الذي أباحه له، ولا يناله شيئاً من لحوم
الذبائح ولا دمائها ولكن التقوى والخلافة المنشودة.
أما فيما يتعلق بالصلاة ركن الإسلام الأول بعد الاعتراف بوحدانية
الله ورسالة رسول الإسلام، تُؤدى خمس مرات يومياً بعد أن كانت خمسين في جماعة من
المسلمين في بيت من بيوت الله، فلا شك أن هذه الصلوات بهذه الكيفية وبهذا الاهتمام
تحمل في مضمونها حكماً سامية وفوائد بالغة، وأسراراً مرعية تعود في فرد المصلي
وعلى جماعة المصلين، كذلك نجتهد فنذكر بعضاً من هذه الحكم.
أسرار صلاة الجماعة ومردوداتها على الفرد:
صلاة الجماعة تضفي على القلب الطمأنينة، وتجلب الراحة من مكابدة
الحياة ومشاق العمل، حيث يتوجه الفرد بقلبه وعقله وجسده إلى ربه ومولاه راجياً
عفوه طامعاً في رضاه، منشغلاً بذكره ومناجاته، طارحاً همومه ومتاعبه، فتتغاشاه
السكينة وتنزل عليه الرحمة ويشعر بالراحة والهدوء، وقد كان نبينا صلى الله عليه
وسلم الذي هو أفضل خلق الله قاطبة، يقول لبلال مؤذنه: «أرحنا بها يا بلال» (رواه:
أبو داود، وأحمد، والبغوي، والطبراني، وصححه الألباني في المشكاة)، أي أقم الصلاة
لتجلب لنا الراحة من التعب والهناء والشفاء.
وقد فرض الله الصلوات الخمس في أوقات مختلفة، لا يجوز أدائها في غير
هذه الأوقات إلا لذو عذر، وقد ناسب سبحانه هذه الأوقات ونوعها لتتناسب وتتكيف مع
حركة ونشاط الإنسان في اليوم والليلة، فالصبح من بداية اليوم، والظهر مع ذروة
العمل، والعصر يتوسط النهار، والمغرب في نهاية اليوم، والعشاء استعداداً للنوم،
ولذا فإن أداء هذه الصلوات في جماعة تعين المسلم على مشاق الحياة والتكيف معها
والتعامل مع كل أوقات اليوم والليلة، فتضفي هذه الصلوات على الفرد في تلك الأوقات
مع أدائها وسط إخوانه إستقراراً نفسياً وثباتاً انفاعلياً، تجعله مهيئاً نفسياً
وجسدياً للتعامل مع الحياة ومع كل
وقت بما يناسبه، فلا يصاب المسلم بالقلق والتوتر، ولا يغشاه فتور
العمل ورتابة الروتين اليومي.
يقف المسلم في صلاة الجماعة بجوار أخيه المسلم في صفوف متساوية خلف
إمام واحد هو أعلمهم، لا فرق بين بعضهم البعض أكتافهم متلاحمه وأقدامهم متلاصقه،
ووجوههم متجة إلى الله بالذل والخشوع إليه، وهنا تبدو لنا حكمة الله البالغة من
هذه الجماعة، عندما يشعر كل إمرؤ بأنه عند ربه مثل بقية إخوانه لا فرق بينهم ولا
فضل لأحد على أحد، الحاكم بجوار المحكوم والقائد بجوار المقود، والغني إلى جانب
الفقير والخادم مع المخدوم، الكل في هذا الموقف أمام الله سواء، الكل يرجو عفو ربه
ويطمع في رضاه، وإن تفاوتت بينهم الحظوظ في الحياة فهي من قبيل الابتلاء وليس
التفضيل، فيشعر كل فرد بالرضا والقناعة والتوافق النفسي والاجتماعي.
ومن الجدير بالذكر أنه لا توجد ديانات تساوي بين معتنقيها في شعيرة
من الشعائر على هذا الوضع وبهذا العدد في اليوم والليلة إلا في الإسلام، الذي لا
يعرف العنصرية والتعصب، ومن الثابت كذلك غلبة السلوك الجماعي على السلوك الفردي،
فالسلوك أو الاتجاه العام للجماعة يجذب أفراده للإيمان به والامتثال إليه، فحينما
يتواجد الفرد بصفة مستمرة في جماعة خلقها الصدق وذم الكذب، فلا بد ستكون هذه صفته
كذلك، وإن كان على غيرها فمع مرور الوقت سيتأثر بها حتى تصير صفته مثل جماعته،
كذلك فإن التجمع لأداء الصلوات والالتزام بسننها وآدابها، يجعل كل فرد يكتسب
مجموعة من القيم والأخلاق الفاضلة وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، أما الأفراد
الذين لا تقام فيهم الصلوات، فإنهم بذلك يكونون في حوذة الشيطان عرضة لنهبه
وإفساده، لأنهم لم يتحصنوا بها عليه، كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في
قوله: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم
الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية» (رواه أحمد، وأبو داود
والنسائي، وحسنه الألباني في المشكاة).
أسرار صلاة الجماعة على مجتمع المصليين:
فتبدوا حكمتها في تحقيقها للغاية الإسلامية العظيمة في حفظ التماسك
الاجتماعي ووحدته، واعتصام أفراده بحبل الله، ونبذ كل ما يؤدي شق الصف والفرقة
والخصومة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا
ثم شبك بين أصابعه» (متفق عليه).
صلاة الجماعة بمثابة صورة مصغرة للمجتمع المسلم الكبير، لهم إمام
واحد يقف خلفه جماعة متراصين لا فرقة ولا فرجة بينهم، متوجهيين بأرواحهم وقلوبهم
وعقولهم إلى ربهم، مستقبلين بأجسادهم مع إمام قبلة دينهم، تحرم عليهم مخالفة
الإمام ولا تجوز مسابقته ومساواته مكروهة عندهم، إذا نسي الإمام أو أخطأ لأنه ليس
معصوم فهو مثلهم ومنهم فتحوا عليه وراجعوه بانتظام وآداب، ينتقون إمامهم وفقاً
لضوابط ومعايير وضعها لهم إسلامهم، تكمن في الكفاءة والتقوى وتغض الطرف عن الأصل
أو اللون من غير ما تمييز عنصري أو عرقي بغيض، وهنا يتبادر إلى أذهاننا سؤالاً..
إن كان المسلمون يجتمعون على هذا الحال وبهذا الإخلاص في اليوم خمس مرات موزعة على
مدار اليوم، فكيف يكون حالهم؟
تبدوا عليهم معايير تماسك الجماعة من غياب الأنا والانصياع لكلام
الله ورسوله، والانتظام والتشابك ووحدة الهدف وسمو الغاية، لذلك فإن لها دور هام
في تلقين الأدوار الاجتماعية، والتذكير بما ينبغي أن تكون عليه الجماعة المسلمة،
وتربية الأجيال على هذه المواصفات، لذلك لما غابت صلاة الجماعة من المسلمين، طفت
علينا بعض الظواهر الاجتماعية التي لم تكن بهذه الصورة عند أسلافنا، من الصراع
والعصبية وحب الظهور وتولي أمور المسلمين من ليسو بأهلها.
وكذلك لا يخفى علينا الدور الهام الذي تؤديه الجماعة في بناء
العلاقات الاجتماعية الفعالة، تجدها في المساجد بين المصليين، حيث ترى أجواء
التكافل الاجتماعي والتواصل الفعال بين أوساط المجتمعات التي يحرص أفرادها على
صلاة الجماعة، حيث تكون أكثر قوة وتماسكاً بالمقارنة بغيرها، في حين أن المجتمعات
المتحضرة المنشغلة بجلب الحظوظ الدنيوية والمادية، حيث تكاد تنعدم بينهم الجماعات،
تجد العزل الأسري، كل أسرة معزولة منطوية على نفسها، لدرجة أنه الجيران لا يعرفون
بعضهم البعض.
وكان ذلك سبباً رئيسياً في انتشار الاكتئاب والشعور بالقلق والتوتر
والخوف من المستقبل، والشعور بالعزلة داخل هذه الأوساط، هذا ولا ينبغي أن نتغافل
عن دور الجماعات في القضاء على بعض الأمراض الاجتماعية الفتاكة، التي تفتك
بالمجتمعات وتؤدي إلى الصراعات والبغض والكراهية بين الأفراد، وعلى رأس هذه
الأعراض يأتي الحسد، حيث يدرك المصلين جميعهم أنهم جميعهم متساوون أمام الله، وأنه
سبحانه لم يميز بينهم في الرزق ولا غيره، وإنما تفاوتت الحظوظ بينهم واختلفت
الأدوار من أجل التفاعل الإنساني وعمارة الأرض، فحين يشعر المصلي الحاسد بوقوف
المحسود إلى جانبه في صف واحد وعلى هيئة واحدة فلا حسد ولا شحناء ولا بغضاء، فالكل
يركع ويسجد متذللاً لله الرزاق، فلا ذل إلا إليه ولا حاجة إلا عنده جل في علاه،
يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ..} [العنكبوت: 45]
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire