بحث عن غزوة حنين
أولاً: موجزٌ مختصرٌ عن الغزوة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
كما قدم أخي الكريم الشيخ لقمان عن أهمية هذا الحلقة، التي
أعدها وقام على إعدادها مكتب الدعوة في الروضة، وكما تعلمون، سيشارك -بإذن الله-
في الأيام القادمة عدد من الإخوة المشايخ.
هذه الحلقة حلقة تعليمية مهمة، جاءت في وقت مهم، -كما أشار- في
قضية "أهمية الجهاد في سبيل الله".
ونحن سنقف مع هذه الغزوة، التي هي "غزوة حنين" من باب
الوقوف مع سنة المصطفى لأننا كثر السؤال هذه الأيام:
"أين المخرج؟" الأمة تتخبط في واقعها، وتخرج من نفق إلى نفق، حتى كاد أن
يحل اليأس في قلوب كثير من الناس.
ونقول: إن المخرج بما بينه المصطفى
" تركت فيكم ما إن تمسكتم به
لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " هذا هو المخرج وهو طريق النجاة؛ فإنه
حري بنا -أيها الأحبة- في وقت تشتت فيه المسلمون، وازدادت المصائب والكوارث- أن
نعود إلى المنبع، وإلى المصدر، وإلى الأصل: إلى الكتاب والسنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) ويقول -جل وعلا-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)( ) ويقول -جل وعلا-:
(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)( ).
إذًا الرجوع إلى السنة أصل في منهج الدعوة أيها الأحبة، وما
ضعفت شوكة المسلمين، وما تفرقت كلمتهم، إلا لبعدهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم ولذلك فإننا نقف هذا اليوم مع السنة؛ التزاما بحديث الرسول في حديث العرباض بن سارية،
قال: " وعظنا رسول الله موعظة بليغة، وجلت منها
القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: "يا رسول الله، كأنها موعظة مودع،
فأوصنا." قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه
من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا " ( ).
طيب، نحن رأينا اختلافًا كثيرًا، فأين المخرج يا رسول الله؟
المخرج -وهو يوجه صحابته " ومن يعش منكم فسيرى
اختلافاً كثيرا " ( ) ها نحن نرى اختلافاً كثيرا، ونرى مصائب عدة في واقع هذه
الأمة. فدلهم على المخرج فقال: " فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها " ( ) "وتمسكوا بها،
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" أو كما قال
.
من هذا المنطلق جئنا نتحدث في هذه الغزوات أيها الإخوة، وغزوة
اليوم التي نبدأ بها حديثنا، هي "غزوة حنين"، وغزوة حنين من أعظم
المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وهي من آخر غزوات الرسول
وسأجملها لكم بكلمات، ثم
أقف مع الدروس العظيمة التي وردت في هذه الغزوة.
هذه الغزوة ورد فيها دروس عظيمة جدًّا، تغيب عن ذهن كثير منا.
وأنا أقرأ في السيرة، أقرأ في الأحاديث؛ وجدت فيها من الكنوز ما أعلم أنني لا
أستطيع أن ألقيه في هذه العجالة، ولكنني سأختار أعظم هذه الدروس وهذه الوقفات، في
هذه الليلة، ولكن قبل هذه الوقفات أعطي موجزاً مختصراً في بضع دقائق لهذه الغزوة:
عندما جاء الرسول إلى مكة، وفتح الله له مكة
في رمضان؛ بلغ عرب الطائف ومن حولهم بانتصار المسلمين وبفتح مكة، فخافوا خوفاً
عظيمًا، وقالوا: "نحن سنكون بعد مكة"، فأعدوا عدة، وكانوا يعدون قبل
ذلك، كانوا يعدون لهذه المعركة، حتى ورد أنهم كانوا يعدون منذ سنة لغزو الرسول فلما علموا أن الرسول جاء إلى مكة، وافتتح مكة؛ قالوا: "فلنبدأ به قبل أن يبدأ
بنا".
فجاء مالك بن عوف -وكان سيدًا في قومه- وجمع هوازن وثقيف وبني
مالك وبني جشم، وغيرهم من قبائل العرب المتاخمة للطائف، ونزل بهم بعد رمضان إلى
مكة؛ لمهاجمة الرسول فلما علم الرسول خرج بعد رمضان، في السنة الثامنة من الهجرة، في اليوم الخامس أو
السادس من شوال؛ لملاقاة مالك بن عوف ومن معه من هوازن وثقيف.
وفعلا التقوا في حنين، ولكن كان أهل الطائف قد سبقوا رسول الله إلى المواقع المهمة، وعندما
خرجوا وهم في الطريق، وكان عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا (عشرة آلاف من الذين
جاءوا مع الرسول من المدينة، وألفان من الطلقاء، أي: من الذين أسلموا في الفتح)
فخرجوا إلى حنين، فلما رأى بعض المسلمين هذا العدد الهائل- رأوا هذا العدد الكبير؛
قال قائلهم: "لن نغلب اليوم من قلة" واستمروا.
وعندما قربوا من الموقع الذي عسكرت فيه هوازن وثقيف بقيادة مالك
بن عوف، بدأ الرسول يستطلع أخبارهم، وأرسل أحد الصحابة ليستطلع خبرهم، وجاءه بالخبر.
وعندما اصطف الصفان بعد الفجر مباشرة، وقد قرر مالك بن عوف أن
يبدأ قبل أن يُبدأ به، فقد أخذ روح المبادرة، فتعجل بعض الشباب، وسرعان الناس مع
رسول الله وغشوا في المعركة دون أن يكون عليهم دروع أو سلاح -كما ورد في
الأحاديث الصحيحة- فرماهم أولئك بالنبل؛ لأنهم قد تحصنوا في أماكن مهمة في الجبال
وفي نواحي المنطقة التي عسكروا فيها، فسرعان ما انهزم القوم وولوا على أدبارهم،
وهربوا من المعركة، حتى بقي رسول الله
وحده، وليس معه إلا قلة -في بعض
الروايات: بقي معه رجل واحد، وفي بعض الروايات: بقي معه أربعة رجال.
وكان عدد هوازن قرابة عشرين ألفا، فانطلقوا يقاتلون حتى ارتج
القوم وولوا الأدبار -وبخاصة الطلقاء والأعراب- وسرعان الشباب الذين أسرعوا من
القوم، حتى قال بعض القائلين: "لن يردهم إلا البحر" وقال آخر من الذين
كانوا حديثي عهد بإسلام -بل من المشركين- منهم من قال؛ لأنهم كانوا قد جاءوا
يرقبون المعركة، ولم يدخلوا فيها: "اليوم بطل السحر" بل قد ارتد بعض
الناس ممن كان قد أسلم بالأمس من طلقاء مكة.
وبقي الرسول ينادي، ثم أمر العباس -وكان
جهير الصوت- فنادى، فبدأ الصحابة يأتون فردا فردا، والرسول
ثابت في مكانه، ثابت في مقامه، حتى -في
بعض الروايات- أنه كان يركب بغلة (وقالوا: إن ركوب البغلة يدل على الثبات
والاستقرار والهدوء) وبدأ ينادي: "أيها الناس" وبدأ العباس ينادي
المهاجرين، ينادي الأنصار، ينادي أصحاب بيعة الشجرة (أصحاب الشجرة) فبدءوا
يتوافدون فردا فردا، حتى -في بعض الروايات- أن جمالهم وخيلهم كانت ترفض أن تعود
إلى المعركة، فينزلون عنها ويأتون بأقدامهم، حتى تكامل مع رسول الله قرابة مائة -قيل في الرواية
ثمانين فردا، لاحظوا العدد- وقيل: "مائة" فبدءوا في القتال، واشتد
القتال، ثم أخذ الرسول حُصيات ورمى بها وقال:
"انهزَموا" أو "انهزِموا" فما هو إلا وقد انهزمت هوازن في
مائة من الناس فقط.
انهزم المسلمون وهم اثنا عشر ألفا، وانهزمت هوازن وأمامهم قرابة
مائة فقط من صحابة رسول الله ثم بدءوا في جمع الغنائم،
وولت حنين إلى أوطاس (منطقة قريبة من حنين) ولمعلوماتكم فإن حُنينًا هي الآن قبل
منطقة الشرائع وأنتم ذاهبون إلى مكة، قبل أن تصلوا إلى منطقة الشرائع (منطقة تسمى
اليمانية) هذه هي حنين.
فهربوا إلى أوطاس، فأرسل الرسول
خلفهم أبا عامر الأشعري وأخاه أبا موسى
الأشعري فقاتل أبو عامر حتى قتل ثم أخذ الراية أخوة أبو موسى الأشعري، فقاتل حتى انهزمت ثقيف
وهوازن، فلحقهم الرسول إلى الطائف، وحاصرهم في
قلعتهم في الطائف قرابة عشرين يوما -وقيل: ثلاثين يوما- وأبو أن ينزلوا من الحصن،
فرجع رسول الله إلى الجعرانة، في الشرائع،
وقد جمعت الغنائم، وهي غنائم ضخمة جدا (أربعة وعشرين ألفا من الإبل، وقرابة أربعين
ألفا من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، وستة آلاف من السبي (أي: من النساء
والذرية) غنائم لم يغنم المسلمـون مثلها في تاريخهم أبداً في عهد رسول الله.
فما الذي حدث؟ بدأ رسول الله
انتظر أياماً لعل أهل الطائف يأتون،
فلم يأتوا، فلما لم يأتوا؛ قسم الغنائم
وأعطى الطلقاء، أعطى المؤلفة قلوبهم،
وأعطى عدداً من المهاجرين والأعراب، ولكنه لم يعط الأنصار شيئا فوجدوا في نفوسهم، وكان لهم
قصة سأذكرها، من الدروس -بإذن الله- ثم ذهب الرسول
وأحرم من الجعرانة واعتمر،
ثم رجع إلى الجعرانة مرة أخرى، وانطلق إلى المدينة، ودخلها وقد بقي على شهر ذي
الحجة عدة أيام. وهكذا انتهت هذه المعركة.
هذه هي بإيجاز عن هذه المعركة العظيمة.
الدروس والعظات من غزوة حنين
ثانياً: التفاؤل وعدم اليأس
ونقف الآن -أيها الإخوة- مع الدروس التي وردت في هذه الغزوة،
الدروس كثيرة جدا:
من أول الدروس: والرسول سائر إلى حنين، وقد بلغته هذه الجموع،
وقيل له: "إن معهم أموالهم وأولادهم ونساءهم"؛ لأن مالك بن عوف قد جاء
معه بالنساء والأطفال والأغنام والإبل والأموال، لماذا؟ قال: حتى لا ينهزم أصحابه؛
لأنهم إذا عرفوا أن أموالهم وأهلهم معهم لا ينهزمون بسهولة.
فلما بلغ الرسول فرح، وقال: " تلك غنيمة المسلمين
غداً -إن شاء الله- " ( ) الدرس هنا أنه مع هذه المحنة العظيمة، الرسول كان متفائلاً، وتفاؤل الرسول ثبت في عدة مواقف:-
-في قصة سراقة بن مالك،
والرسول مطرود من مكة كان يبشر سراقة -كما ورد في بعض الآثار.
-في غزوة الأحزاب بشر صحابته.
وإن كان في هذه الأحاديث بعضها فيها ضعف، ولكن كان الرسول إذا اشتد به الأمر بشر صحابته، فروح التفاؤل لا تغادره
ولذلك فمهمة الداعية إذا
كثر القنوط وكثر اليأس وكثرت المشكلات- أن يبشر من معه.
يا أخي الكريم، مع هذه المصائب التي نراها الآن في الأمة، ومع
هذا الابتلاء، ومع هذا التقتيل- صورة سوداء حالكة- يجب أن نبشر بالنصر العظيم
-بإذن الله- عاجلاً أو آجلاً، هكذا كان
يفعل، وفعل في مثل هذه
المعركة.
ثالثاً: العبرة ليست بالكثرة
الدرس الثاني -ولن أرتب الدروس- درس من أعظم دروس هذه المعركة:
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ)( ) ورد في كثير من الروايات أن هناك بعض الصحابة، لما رأوا كثرتهم
وهم قد خرجوا من مكة؛ قالوا: "لن نغلب اليوم من قلة" أعجبوا بكثرتهم؛
لأن هذا من أضخم الجيوش التي خرجت في عهد الرسول
.
فماذا كانت النتيجة؟ كانت الوقعة، وكانت الهزيمة النكراء، وهذا
الجمع الحافل وهذا العدد الكبير لم ينفعهم من الله شيئا.
هذا درس -أيها الإخوة- سأقف معه، ونحن بأمس الحجة إليه، مسألة
الكثرة والقلة مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، ويجب أن ننتبه لها، ليست العبرة
-أيها الأحبة- في ميزان الشرع بالقلة والكثرة أبدا (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)( ).
إنني أوجه خطابي لكم ولمن يسمع هذا الكلام: نحن أمام درس عظيم،
لا تغتروا بالكثرة، لا تغتروا بكثرتكم، ولا تغتروا بكثرة الأعداء وترهبوا كثرة
الأعداء (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ)( ).
وقد ذكر الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن من مسائل
الجاهلية الاغترار بالأكثر: "أنهم -يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وهو
يبين مسائل الجاهلية- أن من أكبر قواعدهم الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة
الشيء، فأبطل الله ذلك -جل وعلا- (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً
وَأَوْلاداً)( ) (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ
مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)( ) (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ
مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعاً)( ) (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي
الْأَرْضِ)( ).
ليست العبرة بالكثرة والقلة أيها الإخوة، أيها الدعاة، يا طلاب
العلم، يجب أن تفقهوا هذه الحقيقة التي رأيناها عيانا في غزوة حنين: ليست العبرة
بالقلة والكثرة؛ فدائما الكفار هم الأكثر، والمؤمنون هم الأقل، واستمعوا إلى بعض
الآيات التي وردت في ذلك (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ
مَا يَعْمَلُونَ)( ) (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)( )
(تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)( ) (وَإِنَّ كَثِيراً
لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)( ) (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ
فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)( ) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ
وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)( ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ)( ) (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)( ).
أما المؤمنون؛ فدائما هم القلة، هم الأقل، هم الندرة، وهكذا
يأتي الشرع ليثبت ذلك، (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)( ) (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبَادِيَ الشَّكُورُ)( ) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)( ) (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا
قَلِيلاً مِنْهُمْ)( ) (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو
بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ
أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)( ) (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً)( ) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ)( ).
العبرة - أيها الإخوة - ليست بالكثرة، بل إن الاحتجاج بالكثرة
والإعجاب بالكثرة من مسائل الجاهلية، وهنا كثير من الناس الآن قد يعجب بكثرة
الناس، نحن -والله- نفرح إذا رأينا كثرة المهتدين وكثرة الملتزمين، ولكن يجب إلا
ننخدع في يوم من الأيام بهذه الكثرة؛ فإن الكثرة قد تكون وبالاً على أصحابها، كما
كانت وبالا على رسول الله ومن معه في حنين، فإن كثرتهم قد غرتهم،
وقال قائلهم: "لن نغلب اليوم من قلة" فغلبوا مع كثرتهم، مع أنهم قد
خرجوا منذ فترة قليلة من معركة، وخرجوا منتصرين من معركة فتح مكة، ومع ذلك هزموا.
فأقول: إن الكثرة ليست هي المقياس أيها الإخوة، إنما المقياس
بالالتزام بالحق؛ ولذلك رأينا كيف هزم اثنا عشر ألفا وانتصر مائة، كم الفرق بين
الاثنين؟ الفرق عظيم، عظيم جدا. اثنا عشر ألفا يهزمون، وينتصر مائة!
إذاً لا عبرة في القلة والكثرة؛ ولذلك كان من أعظم أسباب هزيمة
المسلمين في حنين أنهم اغتروا بالكثرة، فحذار حذار أن تغتروا بالكثرة، لا تغتروا
بكثرتكم، ولا تغتروا بكثرة أعدائكم.
هنا يأتي سؤال يفرض نفسه، وقد يقول قائل: "إنه ورد عن
المصطفى في حديث أنه " لن يغلب اثنا عشر
ألفا من قلة " ( ) فكيف نفعل بذلك؟ وهذا الحديث رواه أبو داود وأحمد وأبو
يعلى والدارمي والواقدي، فروي بعدة أسانيد، وبمختلف الروايات، وهو عن ابن عباس " لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة " ( ) كيف نجمع بينه وبين
هؤلاء، وعددهم اثنا عشر ألفا، وقد هزموا؟
لأنه في بعض الروايات عند أبي يعلى ورد فيها: " ما صبروا
" نعم لا بد من الصبر، شرط الصبر. وعند الواقدي " ما اتحدت كلمتهم
" "أنهم لن يغلبوا ما صبروا" وفي بعض الروايات أنهم لم يغلبوا (أي:
يغلب اثنا عشر ألفا ما اتحدت كلمتهم) أما إذا لم تتحد كلمتهم؛ فإنهم عرضة للهزيمة
وعرضة لهذا الأمر؛ حتى لا يقع الإشكال كيف نجمع بين هذين الحديثين " لن يغلب
اثنا عشر ألفا من قلة " ( ) نقول: " ما صبروا وثبتوا " و " ما
اتحدت كلمتهم " كما في بعض روايات الحديث.
رابعاً: من أسباب الهزيمة ضعف العقيدة والعجلة
الدرس الثاني: من أسباب الهزيمة أيها الإخوة: والصحابة منطلقون
من فتح مكة رأوا شجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم، يقال لها "ذات
أنواط" فقالوا: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات
أنواط" فغضب الرسول وقال: " أتقولون كما قال بنو
إسرائيل لموسى " ( ) (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)( ) هنا
قال العلماء: من أسباب هزيمة المسلمين أنهم وجد فيهم من عقيدته ضعيفة، والذين
قالوا هذا الكلام قلة، قد يكونون واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة، مع اثني عشر
ألفا، فكان من أسباب الهزيمة ضعف العقيدة عند بعض المسلمين.
ولذلك هنا نتساءل: لماذا تتأخر الانتصارات؟ لماذا تأخر انتصار
المسلمين في كثير من بقاع الأرض؟ لأن لديهم ضعفا في عقيدتهم. إذا كان هؤلاء -ومعهم
رسول الله هزموا؛ لأن بعض الأفراد -حاشا لله أن
يقول ذلك كبار الصحابة أو من تربى على يد الرسول-صلى الله عليه وسلم- بل إن الذين
قالوا ذلك هم من الطلقاء، أي: من الذين أسلموا وهم مسلمة الفتح، الذين أسلموا منذ
أيام قليلة، هم الذين قالوا للرسول "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم
ذات أنواط" فغضب الرسول وأنكر عليهم هذا الفعل، ووقعت الهزيمة.
من أسباب الهزيمة أيها الإخوة: موقف أشرت إليه في بياني عن
الغزوة، وهو يتعلق بالمحاضرة التي ذكرتها قبل أسبوعين بعنوان: "على
رسلكم" هو تصرف بعض الشباب من سرعان القوم حيث دخلوا المعركة، استعجلوا
المعركة قبل أوانها، انظروا إلى بعض الروايات التي وردت في ذلك، فعند البخاري
وغيره، عن البراء- قال له رجل: " يا أبا عمارة، وليتم يوم حنين؟" قال:
"لا والله ما ولى النبي ولكن ولى سرعان الناس، فلقيهم هوازن
بالنبل " ( )
وفي لفظ قال البراء: " لا والله ما ولى رسول الله ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم " ( ) أي: الخفيفون الذين لديهم خفة
" خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم، ليس عليهم سلاح -أو كثير سلاح- فلقوا قوما رماة
(جمع هوازن وبني نصر) ما يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقًا، ما يكادون يخطئون " ( )
هذا درس عظيم أيها الشباب، إن من أكثر ما تعانيه الدعوات قديما
وحديثاً هو الاستعجال، هو الحماس، هي العواقب، أرأيتم مع رسول الله عندما استعجل هؤلاء الشبان؛ ودخلوا في المعركة قبل أن تستكمل؛ وقعت الكارثة،
ووقعت الهزيمة. تحمسوا قبل أن يستعدوا، قبل أن يأخذوا الأسلحة، قبل أن يلبسوا
الدروع، فوقعت المصيبة.
فحذار حذار من العجلة، حذار حذار من العواطف الجياشة، التي لا
تنضبط بالضوابط الشرعية، انتبهوا لخفاف القوم، الذين يصابون بخفة، ويصيبون غيرهم
بهذه الخفة؛ فإن هذه قد أوقعت المسلمين -في غزوة حنين- في هذه الكارثة، كما رأيتم
في حديث البراء، وهو حديث صحيح، فيه روايات متعددة، فهذه أيضاً من أسباب الهزيمة:
فرار الأعراب، الأعراب فروا عندما دخلوا في المعركة، كما ثبت في الرويات الصحيحة.
خامساً: أهمية التربية
أيضا -وهذا درس مهم جدا- من أسباب الهزيمة ما فعله الطلقاء،
الطلقاء من هم؟ هم الذين أخذهم الرسول
في الفتح ثم قال: "
اذهبوا، فأنتم الطلقاء " ثم أسلموا وكانوا حديثي عهد بالإسلام، لما التحمت
المعركة؛ أول من فر من المعركة هم الطلقاء، وهذا يعطينا درسا عظيما، وهو أهمية
التربية أيها الأحبة، هؤلاء الذين لم يتربوا سرعان ما فروا، وأقول هذا لماذا؟ لأن
الصحوة فيها عدد من الشباب لم يلتزموا إلا قريبا، لم يعرفوا الالتزام الحقيقي إلا
منذ سنوات معدودة أو أشهر، فقد يغتر بهم البعض، فقد يستسمنوا ورما.
لا، لا بد من التربية، ولا بد من الصبر على التربية، والطلقاء
كانوا سببا رئيسا من أسباب الهزيمة في غزوة حنين؛ لأنهم لم يتربوا، لم يدخلوا في
الإسلام إلا قريبا، فهم من أول ما واجهتهم المعركة هربوا، بل إن بعضهم قد ارتد،
وبعضهم قال: "اليوم بطل السحر" اعتبروا فعل الرسول
سحرا، اعتبروا الوحي سحرا،
وقال أبو سفيان -وهو من الطلقاء، ومن الذين أسلموا حديثا-: "لن يرد هؤلاء إلا
البحر" (أي: بحر جدة) يقصد الرسول
وصحابته، لما رآهم ولوا؛
قال: "لن يرد هؤلاء إلا البحر".
أرأيتم أن التساهل في موضوع التربية -أيها الشباب- والصبر عليها
يحدث مثل هذه النتائج، الاغترار بإقبال الناس دون العناية بتربيتهم يحدث مثل هذه
الكوارث، ويحدث مثل هذه المصائب؛ فلا بد من العناية بالتربية عناية تامة ودقيقة
وبطيئة، وعلى تؤدة ودون عجلة.
سادساً: الاختلاف حول قسمة الغنائم
وتعتبر -يا إخوان- معركة حنين من أعظم المعارك التي وقعت فيها
هزيمة بعد أحد، صحيح وقعت مؤتة، لكن مؤتة تعتبر انتصارا، فتعتبر -بعد أحد- مشابهة
لأحد من حيث أسباب الهزيمة أيها الإخوة، كما ورد في بعض الروايات عند ابن إسحاق
وغيره: أنه أول ما هجم الصحابة انتصروا، ثم انشغلوا في جمع الغنائم، ففاجأتهم
هوازن بالنبل -كما وقع في أحد- ثم وقعت الهزيمة.
وهذا يذكرني بأحداث أفغانستان: لما بدأ انتصار إخواننا في
أفغانستان؛ ماذا حدث؟ اختلفوا على الغنيمة، اختلفوا على الدولة، اختلفوا على قسمة
الغنائم! انظروا الأحداث الآن: يحارب بعضهم بعضا، يقاتل بعضهم بعضا، سالت دماء،
دماء زكية، دماء محرمة؛ بسبب اختلاف إخواننا -هداهم الله- في أفغانستان على
الغنائم.
وكثير من الأسباب التي وقعت في حنين نجدها في قتال الأفغان؛ من
أخطاء، ومن تعجل، ومن ضعف في العقيدة، ومن استعجال للنتائج، ومن اختلاف حول قسمة
الغنائم، أمر محزن جدا.
فأين نحن من هذا الدرس؟ درس له وقفة، هذا الدرس -أيها الإخوة
-درس عجيب، هو درس قد يمر الواحد من عنده ما ينتبه له: مالك بن عوف عندما جاء وجاء
بالأغنام والإبل؛ جاءوا معهم بدريد بن الصمة، تعلمون من هو دريد، هذا الشاعر
المعروف العجيب، هذا دريد جاء معهم للمعركة، لماذا جاءوا به للمعركة؟ انتبهوا أيها
الإخوة، وهؤلاء مشركون كفار عصاة، محادون لله ولرسوله، جاءوا لحرب رسول الله معهم دريد، تعرفون من هو دريد؟ دريد عمره مائة وستون سنة عندما جاء، دريد
أعمى البصر، دريد كان ثقيل السمع، دريد كان ضعيف البنية؛ مائة وستون سنة! طيب،
لماذا جاءوا به؟
لأن في دريد ميزة واحدة، اسمعوها: يقول: "وجاءوا معهم
بدريد، وكان رجلا شيخا كبيرا، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب، وكان
شيخاً مجربا.
عجيب! هذا دريد إذًا جاءوا به من أجل رأيه فقط، مائة وستون سنة،
أعمى، ضعيف البنية، ما ينفع بشيء إلا بشيء واحد: أنه صاحب خبرة وتجربة وحياة
طويلة، فهو صاحب رأي، فجاءوا به حتى يستفيدوا من رأيه.
أرأيتم؟ والله لو أن كل واحد منا قدم للإسلام ما يستطيع؛ لفعلنا
العجب، ما فيه شيء إلا رأيه وانظروا الرأي، والله نعم الرأي قاله بالنسبة لهم، لكن
لم يأخذوا به، والحمد لله أنهم لم يأخذوا به، فقال: "ما لي أسمع رغاء البعير،
ونهيق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاة؟" قالوا: "سـاق مالك بن عوف مع
الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم"، فقال: "أين مالك؟" "القائد،
استدعوا القائد." قال: "أين أنت؟" قيل: "هذا مالك" ودعي
له، فقال: "يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من
الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاة؟"
قال: "سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم"، قال:
"ولم ذاك؟" قال: "أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله؛ ليقاتل
عنهم". قال: "فانفَضَّ به (أي: زجره) وقال له: "راعي ضأن
والله" قال لمالك بن عوف: "راعي ضأن والله (لا تصلح قائد معركة، كيف
تفعل ذلك؟ نعم، راعي ضأن والله) وهل يرد المنهزم شيء؟" يقول دريد: "وهل
يرد المنهزم شيء؟" نعم، قال: "راعي ضأن والله (لا تصلح لقيادة المعركة)
وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك؛ لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت
عليك؛ فضحت في أهلك ومالك؟"
وصدق، ولكن مالكا لم يأخذ برأيه -والحمد الله أنه لم يأخذ
برأيه- يقول له: "أنت مجنون؟! تأتي بالحريم والأطفال والغنم والإبل! إذا وقعت
المعركة؛ إن انتصروا؛ انتصروا بهؤلاء، بدون الأطفال والنساء، وإن هزموا؛ المهزوم
لا يرده شيء، فستصبح فضيحة عليك".
وهذا الذي كان: لما انهزمت هوازن وثقيف؛ هربوا، وتركوا نساءهم،
وتركوا أموالهم، وغنم المسلمون أربعة وعشرين ألفا من الإبل، وأربعين ألفا من
الغنم، وأربعة آلاف أوقية، وستة آلاف من السبي (من النساء والأطفال).
الشاهد هذا الرجل، تصوروا! جاء به قومه من أجل رأيه، وهو رجل
كبير (مائة وستون سنة) أعمى، ضعيف، مريض، ولكن من أجل الرأي. أرأيتم كيف يقدم الإنسان
ويخدم دينه؟ كيف يخدم مبدأه؟ كيف يخدم عقيدته؟ إذًا -والله- ما أحوجنا -نحن
المسلمين- إلى أن نستفيد من كل مسلم بما معه: صاحب الرأي برأيه، صاحب الشجاعة
بشجاعته، صاحب المال بماله، صاحب العلم بعلمه، صاحب الإقدام بإقدامه، وهذا -مع كل
أسف- لم يحدث بعد على المستوى المطلوب.
هذا درس عجيب من دروس الكفار، نحن أحق بهذا الدرس منهم، ويجب أن
نستثمر الطاقات الموجودة، بالعكس! عندنا نحن إذا بلغ الرجل ستين سنة واكتمل تجربة
وعقلا وخبرة؛ قيل له: "متقاعد" ستون سنة في أحسن أحواله. نعم، الغرب
يستفيدون من كبارهم بعد الستين، ويبلغون الثمانين. والحمد الله أن مثل هذا الأمر
استثني منه كثير من علمائنا، وإلا لخسرناهم. كم نحتاج إلى صاحب الستين هذا! مائة
وستون سنة، وينفع قومه برأيه! ألا نستفيد نحن من كل صاحب رأي برأيه؟ من كل صاحب
علم بعلمه، وهكذا؟
سابعاً: قضية السرية والعلنية
من الدروس -أيها الإخوة- درس يحتاج إلى وقفة يسيرة، وهي مسألة
فيها إشكال يا أحبتي الكرام، قضية السرية والعلنية: نحن واقعون في مشكلة، نسأل
الله أن يعافينا وإياكم منها، وأنا أقصد عموم الدعاة وطلاب العلم وشباب الصحوة:
إفراط أو تفريط، وقليل من يلتزم الوسط في موضوع السرية، هناك لا يعمل للإسلام عمل
إلا بالسرية، في بلد التوحيد، أهله مسلمون، وإخوانه مسلمون، ولكن كل عمله سر في
سر، وهذا غلو، وآخرون يعتبرون السرية بدعة من البدع، بل من كبائر البدع، ويتهمون
الدعاة -أو بعض الدعاة- أو بعض طلاب العلم، أو بعض شباب الصحوة بالسرية. سبحان
الله!
وهؤلاء مخطئون، وهؤلاء مخطئون، أريد أن أقف معكم وقفة يسيرة يا
أحبتي الكرام؛ لنتبين هذا المنهج؛ حتى لا تزل أقدامنا.
أقول -وآمل أن تعوا ما أقول-: الذين يوغلون في السرية ويبالغون
في السرية ويجعلون أعمالهم كلها سرا في سر- مخطئون، والذين أنكروا السرية وجعلوها
بدعة من البدع مخطئون، بل هم المبتدعون؛ لماذا؟ لأن السرية ثابتة في الأدلة
الصحيحة عن المصطفى وليست في مكة فقط.
السرية -أيها الإخوة -إذا أخذت بقدرها، دون إفراط أو تفريط؛
فإنها ثابتة، وقد سألت سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز عن موضوع السرية،
فقال: "إن السرية تؤخذ بقدرها، تزيد في مكان، وتنقص في مكان، تختلف من بلد
إلى بلد، ومن مجتمع إلى مجتمع.
وقد يكون بعض العمل سرًّا، ولا بد من ذلك، فأقول لهؤلاء الذين
يحرمون السرية ويجعلونها بدعة من البدع: "على رسلكم، أنتم مخطئون
وواهمون"، وأقول لأولئك الذين غلوا في السرية، وجعلوا أعمالهم كلها سرية -في
تجمعاتهم، وطلبهم للعلم، وذهابهم وإيابهم- أقول لهم: "أنتم مخطئون؛ لأن الأصل
في الدعوة- اسمعوا مني-: الأصل في الدعوة هو العلانية، الأصل في الدعوة الإسلامية
هو العلانية": (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)( ).
الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام جهروا
بدعوتهم ليلاً ونهارً سراً وجهراً لماذا أقول هذا وما علاقة ذلك بحنين حنين كما
تعلمون من آخر الغزوات ومع ذلك ثبتت فيها السرية قد ثبتت السرية قبل ذلك في عدة
مواقع ثبتت في دار الأرقم في مكة وثبت في بيعتي العقبة وثبتت في هجرة الرسول أليست سرًّا وثبتت في كثير من الغزوات وثبتت في خروجه مع أصحابه كثيرًا ما
يخرج الرسول وما معه إلا أبو بكر وعمر (أي: وأحيانا
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ينفردون عن بقية المسلمين) هذا عمل سري، نعم "
اسكن أحد، فإنما عليك صديق وشهيدان " ( ) والأحاديث كثيرة في اجتماع الرسول مع أبي بكر وعمر، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحدهم دون غيرهم، وقد ثبت
في ذلك أحاديث صحيحة.
أما في حنين؛ فإنها لما حدثت مشكلة الغنائم، ووجد الأنصار في
نفوسهم شيئا؛ طلب الرسول من سعد
أن يجمع له الأنصارقال لسعد
بن عبادة: " اجمع لي الأنصار " فلما جمعهم الرسول
قال لهم: " أفيكم أحد
من غيركم؟ " ( ) لاحظتم الرسول في حنين؟ طلب اجتماع الأنصار وحدهم،
دون أن يدخل فيهم أحد، ولا من المهاجرين، لم يحضر لا أبو بكر، ولا عمر، ولا
العباس، ولا غيرهم، بل سألهم الرسول وقال: " أفيكم أحد من غيركم؟
قالوا: " لا يا رسول الله، إلا ابن أخت لنا". قال الرسول ابن أخت القوم منهم " ( ) إذًا ما فيه مانع من دخوله، أما إذا كان
غيره؛ يطلع، ما له علاقة بهذا الاجتماع، هذا اجتماع خاص، خاص بالأنصار.
هكذا ثبت في الأحاديث الصحيحة، ما دخل في هذا الاجتماع ولا
مهاجري، ولا أحد من الطلقاء، مع أنهم مسلمون، وفيهم كبار الصحابة، جعله خاصا
بالأنصار -باب "من خص بالعلم قوما دون آخرين"- يريد الرسول أن يحدثهم
حديثا خاصا ما يخص المهاجرين، ما له علاقة بالمهاجرين، هذا نوع من السرية، بل
سألهم: " أفيكم أحد من غيركم؟ " ( ) قالوا: "لا يا رسول الله، إلا
ابن أخت لنا"، هو ليس من الأنصار، لكن أخواله الأنصار. قال: " ابن أخت
القوم منهم " ( ).
إذًا يا أحبتي الكرام، يجب أن نفهم السرية على وجهها الصحيح،
فلا إفراط ولا تفريط، وأقول: الأصل في العمل الإسلامي، الأصل في الدعوة هو
العلانية، ولكن -حتى مع قيام الدولة- قد يحتاج إلى السرية.
الرسول احتاج إلى السرية، حتى بعد قيام الدولة،
وليست خاصة في مكة -كما يقول البعض- أبدا، فيه أحاديث كثيرة جدا في فتح مكة، عندما
التقى مع حاطب ومن معه (حاطب بن أبي بلتعة
ومعه الصحابة) كانت خاصة
ببعض الصحابة، بعض كبار الصحابة لم يحضروها.
إذًا ما كان الرسول يخرج لمعركة إلا ورى بغيرها، إلا غزوة تبوك؛
إذًا هذه سرية، فالسرية إذا أخذت بقدرها دون إفراط أو تفريط؛ فإنها مشروعة، أما
الغلو فيها -كما هو واقع عند كثير من الناس- هذا هو الخطأ، فلا إفراط، ولا تفريط.
ثامناً: ثبات القائد
من الدروس العظيمة: درس من أعظم أسباب انتصار المسلمين ثبات
الرسول حتى -كما في بعض الروايات- لم يثبت إلا
هو وحده وقيل: "معه أربعة: أبو بكر وعمر
وعلي والعباس" وقيل: "ثمانية" وقيل: "عشرة" لكن ثبات
الرسول كان ثابتا، حتى نادى على الأنصار والمهاجرين، فحضروا.
أقول: هذا الدرس أن ثبات الداعية على مبدئه من أعظم وسائل
انتصاره، من الملاحظات التي نراها عدم ثبات بعض الدعاة على مبادئهم، كل يوم له
رأي، يغير مواقفه. ثبات الداعية من أعظم وسائل الانتصار، ولذلك لما ثبت رسول الله كان سببًا رئيسا من أسباب انتصارهم بعد الهزيمة النكراء.
فأيها الدعاة، الله الله، الثبات الثبات، اسألوا الله الثبات،
اسألوا الله أن يثبت قلوبكم، فأقول: "إن قضية الثبات -أيها الإخوة- نحتاج
إليها، وطنوا أنفسكم على الثبات.
جاءني بالأمس بعض الأحبة من دولة عربية، وقالوا: "إننا
سجنا ثمانية أشهر، وعذبنا بأنواع التعذيب، حتى بالكهرباء والثلج، ولكن الله ثبتنا
فلم ننطق بكلمة مع هؤلاء المجرمين، فله الحمد والشكر"
والله إنني أكبرتهم! رجال بسطاء، سجنوا سبعة أشهر أو تزيد، وليس
لهم ذنب إلا أنهم أقاموا مساجد في قراهم وفي باديتهم، في دولة عربية! نعم، ومع ذلك
ثبتوا ثباتًا، فنسأل الله الثبات؛ فإن ثبات الداعية على منهجه- بل يقولون:
"إنه في آخر الأيام؛ بسبب ثباتنا اهتدى بعض الضباط الذين يعذبونهم" نعم،
يقول: "تعاطفوا معهم، وتحسنت أحوالهم؛ لأنهم قالوا: لولا أن هؤلاء على حق؛ ما
ثبتوا"، فما كانوا ينطقون. يقول: "والله حتى بكلمة أو مما يريدون لم
نفعل شيئا" فكان سببا عظيما من أسباب الانتصار.
إذًا من أعظم أسباب انتصار المسلمين في غزوة حنين ثبات الرسول .
الله الله أيها الدعاة، الثبات الثبات؛ الأعداء متيقظون قائمون،
يعملون ليل نهار، فاحذروا، فاحذروا من خلاف الثبات، من الزلل، من الضلال -والعياذ
بالله- فلا بد أن يكون الداعية ثابتا على مبدئه، على عقيدته؛ وبهذا ينتصر -بإذن
الله- فهذه مسألة تتعلق بقضية الثبات.
تاسعاً: خلق القائد وصبره
ما بقي إلا درس أو درسان سأحاول أن أختصرهما -إن شاء الله- مع
أن فيها درسا عظيما جدًّا
من أعظم الدروس: خلق الرسول
وصبره، واجه -وتصوروا-
هؤلاء الأعراب، هؤلاء الطلقاء، الطلقاء من كفار قريش، ثم أسلموا- هربوا، ولما جاءت
الغنائم؛ جاءوا يركضون! أول من هرب هو أول من جاء للغنائم، فأحدهم يقول:
"اعدل يا محمد" فيستأذن عمر بقتل هذا الرجل؛ لأنه كفر، وغضب الرسول وقال: " من يعدل إن لم أعدل " ( ) " خسرت وهلكت إن لم أعدل
" ( ) أو كما قال .
ولكنه حلم وعفا وصفح، وقال: " لا أحب أن يتحدث الناس أن
محمدًا يقتل أصحابه " ( ).
جاءه رجل -كما في بعض الروايات، كما روى أنس بن مالك- يقول:
جاءه أعرابي فأخذ وجذب الرسول حتى أثر في عنقه، وقال: "أعطني يا
محمد من مال الله" فالتفت إليه الرسول
وضحك، فأعطاه حتى رضي.
جاءه رجل وقال: "أعطني" فأعطاه مائة من الإبل. قال:
"أعطني" فأعطاه مائة من الإبل. قال: "أعطني" فأعطاه مائة من
الإبل. يقول: "والله إنه كان أبغض رجل إلي، فما انصرفت إلا وهو أحب رجل إلي".
خلق الرسول خلق رفيع، لا ينتصر لنفسه، ولذلك قال
الله -جل وعلا-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)( ) وعندما سئلت عائشة عن خلقه
قالت: "كان خلقه القرآن".
يا أحبتي، أنتم تواجهون في دعوتكم بعض الإهانات، ولن تواجهوا
كما واجه الرسول فعليكم بالصبر، وطنوا أنفسكم على
الصبر، وطنوا أنفسكم على الحلم، وطنوا أنفسكم على العفو: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ)( ).
فحذار حذار أن تنتصروا لأنفسكم، حذار حذار أن تغضبوا لأنفسكم،
ويأتي الشيطان فيقول: "إن غضبكم لله" لا، إن كنتم تريدون انتصار الدعوة
-ولا أشك في ذلك- فاصبروا وصابروا، واعفوا واصفحوا وتحملوا، ستأتيكم إهانات،
سيأتيكم ابتلاء، سيأتيكم أناس من قليلي الأدب، فعليكم بالصبر، وعليكم بالحلم،
وعليكم بالعفو؛ اقتداءً بسنة المصطفى
هذا أمر مشاهد وبين في عدد من خلقه
وغزواته وأقف إلى ما بعد الآذان.
أعود أواصل أيها الإخوة، أقول: لما نقل للرسول أن أحد الأشخاص -بعد أن وزع
الرسول الغنائم- قال: "إنها لقسمة ما
أريد بها وجه الله" أعوذ بالله، أيقال هذا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟!
الرسول لا يريد بقسمته وجه الله -جل وعلا- فماذا قال المصطف؟ فتغير وجهه وغضب، ولكنه لم يتعد أن قال: " قد أوذي موسى بأكثر من ذلك
فصبر " ( ) ثم ذكر حديث " "أن نبيا من الأنبياء شجه قومه، فكان
يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اهد قومي، اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا
يعلمون ".
فوطنوا أنفسكم على الصبر؛ لأنه تأتيني بعض الحالات، وأسمع بعض
الحالات: سرعان ما يغضب الإنسان، يذهب وقاره لو قيل له كلمة، لو سب أو شتم.. لا،
تحمل، ووطن نفسك على ذلك.
عاشراً: معرفة ومعالجة الرسول
ما في
نفوس الصحابة
موضوع -أيها الإخوة- قسمة الغنائم: هذه الغزوة تحتاج إلى بعد
نظر، الرسول غنم في هذه الغزوة غنائم لم يغنمها في أي معركة أخرى، فبدأ في قسمة
الغنائم، وأعطى من أعطى، أعطى الطلقاء، أعطى الذين فروا، أعطى المؤلفة قلوبهم، ولم
يعط الأنصار شيئا، والأمر -الحقيقة- مؤثر يا أخوان كما تعلمون، ولكن كان في ذلك
حكمة عظيمة جدا، حيث أراد أن يسترق قلوب هؤلاء، وفعلاً، حتى كما ورد أن صفوان بن
أمية يقول: "أعطاني رسول الله يوم حنين وإنه لأبغض الخلق
إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي".
جاءه أبو سفيان فقال: "أعطني يا رسول الله"، فأعطاه
مائة من الإبل. قال: "أعط ابني معاوية مثلها" فأعطاه مثلها. قال:
"أعط ابني يزيد مثلها" فأعطاه مثلها، فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
بقيت قضية مهمة من آخر الدروس: لما وزع الرسول الغنائم، وكما رأيتم، يعطي الأعرابي مائة من الإبل، ثم مائة من
الإبل، ثم مائة من الإبل، وهم الذين لم ينصروه، بل ما دخلوا معه معركة إلا هذه
المعركة، وفروا، ثم وزع كل هذه الغنائم -على كثرتها- ما أعطى الأنصار شيئا واحدا
منها.
انتبهوا معي لهذه الدروس العظيمة في هذه القصة: الأنصار -رضي
الله عنهم- بشر من البشر، بشر، فوجدوا في نفوسهم، حقيقة وجدوا في نفوسهم، قالوا:
"الآن لما وصل قومه وجاء إلى مكة الآن، وفتح مكة، يعني استغنى عنا، أعطى قومه
وتركنا" فأثر في نفوسهم، فكان هذا -الحقيقة -أمرا مؤثرا جدا.
فجاء سعد بن عبادة
فأخبر الرسول
قال: يا رسول الله، ترى مشكلة وقعت:
الأنصار الآن يتحدثون فيك، وقعوا في نفوسهم، يقولون إيش معنى أنه ما أعطانا،
أعطانا في كل الغزوات إلا هذه الغزوة؛ ألأنه فتح مكة أصبح ما هو محتاجا
إلينا؟" يعني: مستعد يجلس عند قومه في مكة، بعد أن آويناه، وبعد أن جلس عندنا
كل هذه السنوات ونحن ننصره ونؤازره، ما يعطينا شيئا؟! أدرك الموقف" قال له
سعد: "يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما
صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب،
ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء".
الله أكبر! والله فعلاً موقف عظيم قال له الرسول " فأين أنت من ذلك يا سعد؟
" ( ) (وأنت؟) فكان أجاب بصدق وصراحة وقال له: "ما أنا إلا من
قومي" قال له الرسول: "الآن أنت تخبرني عن الأنصار، وأنه صار في نفوسهم
شيء، وأنت يا سعد؟" قال: "ما أنا إلا من قومي" صحيح. فقال له
الرسول " فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة " (
) قال: "فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة" قال: "فجاء رجال من
المهاجرين، فتركهم يدخلون. وجاء آخرون، فردهم" نعم، فجاء رجال من المهاجرين
فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له؛ أتاه سعد فقال: "قد اجتمع لك هذا الحي من
الأنصار" فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم
قال: " يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟
ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟
قالوا: "بلى، "الله ورسوله أمَنّ وأفضل" ثم قال: ألا تجيبونني يا
معشر الأنصار؟ قال: "أجيبوا" قالوا: "بماذا نجيبك يا رسول الله؟
لله ولرسوله المن والفضل." قال أما والله - " ( ) بدأ
يحكي ما في نفوسهم " أما والله لو شئتم لقلتم،
فلصَدقتم ولصُّدِقتم: "أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا
فآويناك، وعائلا فآسيناك". أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من
الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار،
أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد
بيده؛ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا؛
لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ".
هذا درس عظيم لك أيها الداعية:-
أولاً- دور سعد بن عبادة: إخباره للرسول
بما جرى؛ هذا أمر عظيم، حتى يستدركه
الرسول.
ثانياً- أهمية تحسس الداعية ما في نفوس طلابه وأتباعه: طالب
العلم يجب أن يعرف ما في نفوس أصحابه وأتباعه، طالب العلم يجب أن يعرف ما في نفوس
أصحابه، الأب يجب أن يعرف ما في نفوس أبنائه، يا أخي الكريم، قد لا تستطيع أن تصل
إلى بعض ما في نفوس أبنائك، ولكن تستطيع عن طريق زوجتك، قد يهابك الأولاد فلا
يخبرونك بما في نفوسهم، يجب أن تصل إلى ما في نفوسهم عن طريق والدتهم، أو عن طريق أحد
إخوانهم، الداعية يجب أن يصل إلى نفوس من معه من المدعوين عن طريق أحد هؤلاء، وأن
يتحسس هذا الأمر.
ثم كيف عالج الرسول
الموقف؟ هل
استهان بذلك الرسول؟ كلا وحاشا، بادر سريعاً وقال: "اجمعهم". فجمعهم،
فأتى الرسول وسمح لبعض الرجال من المهاجرين أن يدخلوا، ورد البقية، رد
البقية، وهذا استدراك وليس -كما قلت قبل قليل- أنه لم يدخل أحد من المهاجرين، إنما
دخل بعض المهاجرين، ولكنهم قلة، أما البقية؛ ردهم الرسول
لأن هذا اجتماع خاص للأنصار.
ثم انظروا المعالجة العجيبة! هل جلس الرسول يعظهم فقط؟ لا، قال: "أعطوني ما في نفوسكم" قالوا:
"ما في نفوسنا شيء" قال: "لا، في نفوسكم شيء، قولوا لي"
فاستحوا. قال: "أما والله لو قلتم لصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، ملاحقاً
فآمناك" كما سمعتم في الرواية، صحيح هذا الذي كان في نفوسهم: "إنه لما
جاءنا طريدا ونحن الذين آويناه، ونحن الذين أغنيناه، ونحن الذين حميناه، ولما
استغنى عنا الآن خلانا" نعم يا إخوان، كلام عجيب. فبكوا بكاء شديدا؛ لأن الذي
قاله الرسول هو الذي في نفوسهم. ثم نقلهم نقلة عجيبة. والله يا إخوان هذه
المعالجة وقفت أمامها طويلا، كانوا ليش تأثرهم؟ ليش ما الواحد عنده بعير، ولا ما عنده
كم من الإبل أو من الغنم أومن الفضة؟ فجعل المقارنة عظيمة، جعل المقارنة بين
الرسول وبين البعير والشاة، قال إيش تبغون؟ إيش رأيكم؟ نقول: "نعطيكم الشاة
والبعير، وأذهب مع المهاجرين إلى مكة، أو يذهب الناس بالشاة والبعير وأنتم تذهبون
برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟"
تصوروا المقارنة العجيبة! أناس ذهبوا يجرون الإبل ويجرون
الشياه، ومعهم الأمتعة، وأناس ذهبوا برسول الله
أيها أعظم؟
هذا متاع عاجل تافه حقير، أما هذا باق، والله لو لم يأتهم من هذه الغزوة إلا أن
قال لهم الرسول هذه الدعوة: " اللهم
أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار " ( ) أيها أعظم: هذه أيها
الإخوة من شاة ومن بعير ومن فضة؟
الداعية يجب أن يكون يقظا متحسسا، ينظر نفوس من معه، يعالج
المشكلات، لا يكن في صومعة بعيدا؛ لأن من الشكاوى الموجودة أن بعض الدعاة بعيد عن
أتباعه، أن بعض الأساتذة وبعض المعلمين بعيد عن طلابه، أن بعض طلاب العلم لا يتحسس
مشكلات طلابه! هذا لا يليق، لا يناسب؛ فالرسول تحسس هذه المشكلة وتابعها وهذه من أهم ما يجب أن يعنى به الداعية: معالجة الأمور النفسية؛
أصحابك، أبناؤك، تلاميذك- بشر يعتريهم ما يعتري البشر من النقص ومن الضعف، فتحسس
مشاكلهم.
يأتيك شاب منكسر، له ظروف، له أوضاع، له أحوال؛ تحسس مشاكله.
يأتيك أناس قد يحسون في نفوسهم شيئا، يأتينا الآن بعض الطلاب ويقولون: "نحن
من البلد الفلاني، ينظر إلينا نظرة خاصة! لماذا هذه التفرقة؟ ألأننا من البلد
الفلاني؟ ألأننا من الدولة الفلانية؟ بعضهم يأتي إلي ويقول: "إنه ينظر إلينا
نظرة خاصة؛ لأننا فقراء".
مهمة الداعية، مهمة طالب العلم أن يكون رحيما بطلابه، يتحسس
مشاكلهم، يرفع من معنوياتهم، يزيل ما رسب في نفوسهم، ثم انظروا إلى الشيطان، كيف
يدخل في مثل هذه القضايا وهم صحابة الرسول
وهم الذين عاشوا معه؟ فالله
الله، أقول: انتبهوا أيها الإخوة.
الحادي عشر: دور المرأة
وأخيرًا: سبق أن أشرت إلى قضية، ولكنني أؤكدها، وهي أنني وقفت
أن اثني عشر ألفا -كما قلت لكم- انهزموا، والذين ثبتوا قرابة مائة، وهم الذين
انتصروا، كم نسبة مائة لاثني عشر ألفا؟ أقل من واحد من مائة، تصوروا! أقل من واحد
من مائة؛ لأن أكثر الروايات أنهم ثمانون من اثني عشر ألفا، وهم الذين انتصروا؛ فلا
تضعفوا ولا تهنوا وأنتم الأعلون، وليست العبرة بالقلة والكثرة.
وهناك دروس كثيرة: فالمرأة قد كان لها دور، وبخاصة أم سليم، كان
معها خنجر، فقال لها الرسول " لماذا هذا الخنجر يا أم
سليم؟ قالت إذا جاءني أحد من المشركين؛ بقرت بطنه. ثم قالت: "يا رسول الله،
ألا تقتل هؤلاء الطلقاء الذين هربوا وخلوك؟" قال: لا، الله -سبحانه وتعالى-
أرحم وأعدل " فعفا عنهم عفا عن الطلقاء مرة ثانية، عفا عنهم في
مكة، وعفا عنهم في حنين، بل أعطاهم من الأموال، حتى كان عند بعضهم الرسول من أبغض الناس، أصبح من أحب
الناس إليهم.
هكذا يكون القائد، هكذا يكون المربي، هكذا يكون الإمام، فأقول:
إن المرأة كان لها دور عظيم، وقد كان معه امرأتان من نسائه
وكان لهن دور ضمن الضوابط الشرعية، لا
كما يريد أولئك الذين يريدون أن يلووا عنق النصوص، ويستدلون بأدلة لأغراض في
أنفسهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire