مقال في إصلاح العقل
تناول سبينوزا طبيعة الإنسان وطبيعة وأصل المعرفة الإنسانية في الجزء
الثاني من «الأخلاق» بالإضافة إلى مقال صغير بعنوان «في إصلاح العقل». وفي حين أن
هذا المقال يتناول المعرفة الإنسانية حصرياً ويربطها بالأخلاق والسعادة والفضيلة
الإنسانية، فهو في الجزء الثاني من «الأخلاق» يتناول الإنسان من حيث طبيعته ووضعه
في الكون وعلاقته بالعالم ويحاول حل قضية الثنائية التقليدية بين العقل والجسم
التي ظهرت لدى ديكارت. الحقيقة أن كتاب «الأخلاق» لا يحوي على مقدمة أو مدخل يوضح
ما ينوي سبينوزا القيام به في هذا الكتاب ولذلك يعد مقال «في إصلاح العقل» هو
مقدمة «الأخلاق» التي توضح لنا الأهداف التي تصدى لها سبينوزا في فلسفته.
حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي
* أبرزنا في المقال السابق كيف أن فلاسفة
أوربا في القرن الثامن عشر قد عملوا على تأسيس مرجعية عالمية كلية لـ”حقوق
الإنسان” على ثلاثة أركان: فكرة القانون التي استقوها من تطور العلوم الطبيعية
وفرضية “حالة الطبيعة” ثم فكرة “العقد الاجتماعي”.
تحدثنا في ذلك المقال عن “فكرة القانون” وسنتحدث اليوم عن الركنين
الآخرين: حالة الطبيعة وفكرة العقد الاجتماعي. فعلا افترض فلاسفة الفكر السياسي
الحديث في أوروبا القرن السابع عشر والثامن عشر وجود “حالة طبيعية” للإنسان، بعضهم
جعلها سابقة للتنظيم الاجتماعي والسلطة السياسية، بينما أراد منها آخرون التعبير
فقط عما يمكن أن يكون عليه الإنسان إذا هو لم يخضع لفعل التربية ولا لسلطة قانون
أو حكومة. وإذا كان جميع فلاسفة الفكر السياسي الحديث في أوروبا قد وظفوا بصورة أو
بأخرى فرضية “حالة الطبيعة هذه، فإن الفيلسوف الانكليزي جون لوك (1632 - 1704) هو
الذي عمل أكثر من غيره على بناء هذه الفرضية بالصورة التي تجعلها قابلة لأن تكون
مرجعية تؤسس “عالمية” حقوق الإنسان. يقول : “لكي نفهم السلطة السياسية فهماً صحيحا
ونستنتجها من أصلها يجب علينا أن نتحرى الحالة الطبيعية التي يوجد عليها جميع
الأفراد، وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم
بما يظنون أنه ملائم لهم، ضمن قيود قانون الطبيعة، دون أن يستأذنوا إنسانا أو
يعتمدوا على إرادته، وهي أيضا حالة المساواة، حيث السلطة التنفيذية والتشريعية
متقابلتان لا يأخذ الواحد أكثر من الآخر، إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن
المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها، المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي
تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعضهم الآخر”.
“حالة الطبيعة” إذن هي حالة الحرية
والمساواة التي يكون عليها الناس قبل أن تقوم فيهم سلطة تحد من حقهم في ممارستهما
-أعني الحرية والمساواة - غير “قانون الطبيعة لا نفسه”، القانون الذي يرمي إلى
“حفظ الجنس البشري وضمان سلامته، والذي يؤول أمر تنفيذه إلى كل إنسان”.
ولم تكن فرضية “حالة الطبيعة” مجرد فكرة تعتمد على الوهم والخيال؛ بل
كانت تستند إلى التصور الجديد الذي شيده العلم الحديث عن “الطبيعة”، كما رأينا.
وهكذا فالمقصود ب “الطبيعة” في عبارة “حالة الطبيعة؟ ليس الأشياء الجامدة المنفصلة
عن الإنسان، بل المقصود، كما قلنا هو: “كامل النظام الفعلي لأشياء بما في ذلك
الإنسان الذي هو جزء منه، الإنسان الذي هو من عمل الطبيعة : موجود فيها وخاضع
لقوانينها والناس في هذا سواسية وأحرار إزاء بعضهم بعضا، لأن حق الإنسان في الحرية
والمساواة هو حق طبيعي له، من عمل الطبيعة. ومن هنا تلك المطابقة بين مفهوم “حقوق
الإنسان”، وعبارة “الحقوق الطبيعية”: حقوق الإنسان هي حقوق طبيعية له. وواضح أن
الإحالة إلى “الطبيعة” هنا معناها تأسيس تلك الحقوق على مرجعية سابقة على كل
مرجعية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي، فهي
مرجعية كلية مطلقة، والحقوق التي تتأسس عليها حقوق كلية مطلقة كذلك.
على أن “حالة الطبيعة” لا تعني الفوضى، بل هي حالة يسري فيها، كما
قلنا “قانون الطبيعة”. ولما كان من المحتمل جدا أن تقوم نزاعات بين الناس عند
ممارسة كل منهم حقه الطبيعي، فلقد صار من الطبيعي كذلك أن يعملوا على تأويل وتطبيق
“قانون الطبيعة” بالصورة التي تضمن حقوق كل فرد، وهذا لا يتأتى إلا بـ “إقامة ضرب
من الاتحاد” بينهم يحمي شخص كل واحد منهم ويمكنه من ممارسة حقوقه ويسمح لكل منهم،
وهو متحد مع الكل، بأن لا يخضع إلا لنفسه، وبالتالي يبقى متمتعا بالحرية التي كانت
له من قبل. ومن هنا فرضية “العقد الاجتماعي” التي تفسر كيفية الانتقال من “حالة
الطبيعة” إلى حالة المدنية كما قررها جان جاك روسو ( 2 1 7 1 - 778 1 ).
أجل، إذا كان جون لوك قد اهتم بتقرير “حالة الطبيعة” أكثر من غيره،
فإن جان جاك روسو كان أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر تقريرا لفرضية “العقد
الاجتماعي” وهي الفرضية التي تقرر كيفية الانتقال من “حالة الطبيعة” إلى “حالة
المدنية”، مع ممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية، وملخص هذه الفرضية أن الإنسان بطبعه
لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل لا بد من اجتماعه مع غيره من بني جنسه. ولما كانت
إراداتهم تختلف وتتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم له حال إلا إذا كان مبنيا على
تعاقد بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتمي إليها،
والتي تجسمها الدولة كشخص اعتباري ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم، وبذلك
تتحول تلك “الحقوق الطبيعية” إلى “حقوق مدنية”، وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر
هذه الحقوق.
وهكذا فتنازل الناس عن حقوقهم للإرادة الجماعية، التي تجسمها الدولة،
بموجب هذا “العقد الاجتماعي”، هو تنازل شكلي، الغاية منه إقرار الحق في الحرية
والمساواة على أساس اجتماعي، ولا شيء غير هذا يسوغ قيام الدولة. أما القوانين التي
تضعها هذه الأخيرة فهي إنما تكتسي شرعيتها من كونها تعبر عن الإرادة العامة للناس،
وهي الإرادة التي تحمي المصلحة المشتركة وتسعى إلى الخير العام. وهكذا تجد “حقوق
الإنسان الطبيعية” مجال تحققها من خلال تحولها إلى “حقوق مدنية” تؤسسها مرجعية
عامة كلية مطلقة هي “الإرادة العامة”! التي تعلو على جميع الإرادات في الوقت الذي
تعبر عنها جميعا: الإرادة التي لا يحركها إلا المصلحة المشتركة والخير العام .واضح
أن هذا النوع من التأسيس لحقوق الإنسان الذي قام به فلاسفة أوروبا في العصر الحديث
يتجاوز الخصوصيات الثقافية، إنه تأسيس يرجع بحقوق الإنسان إلى “البداية”، إلى ما
“قبل” كل ثقافة وحضارة، إلى “حالة الطبيعة”، ومنها إلى “العقد الاجتماعي” المؤسس
للاجتماع البشري، وبالتالي إلى الثقافة والحضارة؛ فهل نخلص من ذلك إلى القول بأن
عالمية” حقوق الإنسان”، بما في ذلك تلك التي يقررها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”،
هي الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه “عالمية” تلك الحقوق يجعل طلب “الشرعية
الثقافية” لهذه الحقوق مسألة غير ذات موضوع؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire