كيف دخل التتر بلاد المسلمين
أسباب قيام الحروب الصليبية
أفتتح ذكر تاريخ الامبراطوريات بهذه
الامبراطورية الضخمة لسببين :
أولهما : عدم معرفة أكثر المثقفين
بطبيعة هذه الامبراطورية.
ثانيهما : في سرد أجزاء من تاريخها
عبرة عظيمه لنا المسلمين حيث انتصرنا عليهم انتصاراً عظيماً ساحقاً في النهاية .
وها أنذا أذكر كلاماً لامثيل له في
شأنهم للإمام ابن الأثير الجزريّ صاحب (( الكامل )) في التاريخ ، ثم أذكر مقاطع
مهمة في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى ، لوصله بواقعنا المعاصر ، و أختم هذه
الحلقات بالحديث عن المعركة العظمى عين جالوت ، ثم أعقب بذكر الأمر المدهش ، ألا
وهو دخولهم في الإسلام .
يقول ابن الأثير رحمه الله في كتابه
الكامل في التاريخ تحت عنوان : ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام :
لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه
الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها فأنا أقدم إليه رجلاً و أؤخر أخرى ، فمن الذي
يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام و المسلمين ، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ، فياليت
أمي لم تلدني ، و يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً ، إلا أني حثني جماعة من
الأصدقاء على تسطيرها ، و أنا متوقف ، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً فنقول :
هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى و
المصيبة الكبرى التي عقمت الأيام و الليالي عن مثلها ، عمت الخلائق و خصت المسلمين
، فلو قال قائل : إن العالم مذ خلق الله سبحانه و تعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا
بمثلها لكان صادقاً فإن لتواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها . ومن أعظم ما
يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل و تخريب البيت المقدس ، و
ما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها
أضعاف البيت المقدس . وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا ، فإن أهل مدينة واحدة
ممن قتلواأكثر من بني إسرائيل ، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض
العالم و تفنى الدنيا إلا يأجوج و مأجوج ، و أما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه و
يهلك من خالفه ، و هؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء و الرجال و الأطفال
وشقوا بطون الحوامل و قتلوا الأجنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها ، وعم ضررها ، وسارت في
البلاد كالسحاب استدبرته الريح .
فإن قوماً خرجوامن أطراف الصين فقصدوا
بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون ثم منهم إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند و
بخارا و غيرهما فيملكونها و يفعلون بأهلها ما نذكره ، ثم تعبر طائفة منهم إلى
خراسان فيفرغون منها ملكاًو تخريباً و قتلاً و نهباً ، ثم يتجاوزونها إلى الريّ و
همذان وبلد الجبل و ما فيه من البلاد إلى حد العراق ، ثم بلاد أذريبجان و أرانية و
يخربونها و يقتلون أكثر أهلها ، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة ، هذا
مالم يسمع بمثله ، ثم لما فرغوا من أذربيجان و أرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا
مدتهولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم ، وعبروا عندهم إلى بلد اللان و اللكز و
من في ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلاً ونهباً و تخريباً ، ثم قصدوا
بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عدداً فقتلوا كل من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض
ورؤوس الجبال و فارقوا بلادهم و استولى هؤلاء التتر عليها ، فعلوا هذا في أسرع
زمان لم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير ، ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى
غزنة و أعمالهم و ما يجاورها من بلاد الهند و سجستان وكرمان ففعلوا فيها مثل فعل
هؤلاء و أشد .
هذا مالم يطرق الأسماع مثله ، فإن
الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على إنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما
ملكها في نحو عشر سنين ، ولم يقتل أحداً إنما رضي من الناس بالطاعة ، وهؤلاء قد
ملكوا أكثر المعمور من الأرض و أحسنه و أكثرة عمارة وأهلاً و أعدل أهل الأرض
أخلاقاً و سيرة في نحو سنة ، ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف
يتوقعهم و يترقب وصولهم إليه ، ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة و مدد يأتيهم فإنهم
معهم الأغنام و البقر و الخيل و غير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير، و أما
دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها ، و تأكل عروق النبات ،لا تعرف
الشعير ، فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من خارج ، و أما ديانتهم فإنهم
يسجدون للشمس عند طلوعها ، ولا يحرمون شيئاً فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب
و الخنازير و غيرها ، و لا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال ،
فإذا جاء الولد لا يعرف أباه .
ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه
المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم ، منها هؤلاء التتر قبحهم الله ، أقبلوا من
المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها ، نسأل الله أن ييسر للإسلام و
المسلمين نصراً من عنده ، فإن الناصر و المعين و الذاب عن الإسلام معدوم ( و إذا
أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) ، فإن هؤلاء التتر إنما
استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع ، و سبب عدمه أن خوارزمشاه محمداً كان قد استولى
على البلاد وقتل ملوكها و أفناهم و بقي هو وحده سلطان البلاد جميعها ، فلما انهزم
منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها ( ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ).
ا لكامل في التاريخ ( 9 / 329 )
سبب خروجهم إلى ديار الإسلام
(خروج
التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه
):
في سنة 617 ظهر التتر إلى بلاد
الاسلام ، وهم نوع كثير من الترك ، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين ، وبينهم
وبين بلاد الإسلام مايزيد على ستة أشهر .
وكان السبب في ظهورهم أن ملكهم ويسمى
بجنكز خان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان وسير جماعة
من التجار والاتراك ومعهم شيء كثير من النقرة و القندر وغيرهم إلى بلاد ما وراء
النهر سمر قند وبخارا ليشتروا له ثياباً للسكوة ، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك
تسمى أوترار وهي آخر ولاية خوارزمشاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال ،
فبعث إليه خوارزمشاه يأمر بقتلهم و أخذ ما معهم من الأموال و إنفاذه إليه ، فقتلهم
و سير ما معهم وكان شيئاً كثيراً ، فلما وصل إلى خوارزمشاه فرقه على تجار بخارا
وسمرقند و أخذ ثمنه منهم ، فلما قتل نائب خوارزمشاه أصحاب جنكز خان أرسل جواسيس
إلى جنكز خان لينظر ماهو وكم مقدار ما معه من اليزك وما يريد أن يعمل ، فمضى
الجواسيس وسلكوا المفازة و الجبال التي على طريقهم حتى وصلوا إليه ، فعادوا بعد
مدة طويلة و أخبروه بكثرة عددهم ، و أنهم يخرجون عن الإحصاء ، و أنهم من أصبر خلق
الله على القتال ، لا يعرفون هزيمة ، و أنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح
بأيديهم ، فندم خوارزمشاه على قتل أصحابهم و أخذ أموالهم
.
فبينما الأتراك كذلك إذ ورد رسول من
هذا اللعين جنكز خان معه جماعة يتهدد خوارزمشاه و يقول : تقتلون أصحابي و تأخذون
أموالهم ، استعدوا للحرب ، فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به ، فلما سمعها
خوارزمشاه أمر بقتل رسوله فقتل و أمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه ، و أعادهم
إلى صاحبهم جنكز خان يخبرونه بما فعل بالرسول و يقولون له : إن خوازمشاه يقول لك :
أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم و أفعل بك كما فعلت بأصحابك ، و
تجهز خوازمشاه وسار بعد الرسول مبادراً ليسبق خبره و يكبسهم فمضى وقطع مسيرة أربعة
أشهر فوصل إلى بيوتهم فلم ير فيها إلا النساء و الصبيان و الأطفال فأوقع بهم و غنم
الجميع و سبى النساء و الذرية ، وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى
محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه وهزموه وغنموا أمواله و عادوا
فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم ، فجدوا السير ، فأدركوه قبل
أن يخرج عن بيوتهم و تصافوا للحرب و اقتتلوا قتالاً لم يسمع بمثله فبقوا في الحرب
ثلاثة أيام بلياليها فقتل من الطائفتين مالا يعد ولم ينهزم أحد منهم ، و استنفد
الظائفتان وسعهم في الصبر و القتال ، هذا القتال جميعه مع ابن جنكز خان ، ولم يحضر
أبوه الوقعه ولم يشعر بها ، فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الواقعة فكانوا عشرين
ألفاً، و أما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم ، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا ،
ورجع المسلمون إلى بخارا فاستعد للحصار لعلمه بعجزه لأن طائفة من عسكره لم يقدر
خوازمشاه على أن يظفر بهم فكيف إذا جاؤا جميعهم مع ملكهم ، فأمر أهل بخارا وسمر
قند بالاستعداد للحصار و جمع الذخائر للامتناع ، وجعل في بخارا عشرين ألف فارس من
العسكر يحمونها و في سمرقند خمسين ألفاًوقال لهم : احفظوا البلد حتى أعود إلى
خوارزم وخراسان ، وأجمع العساكر ، و أستنجد بالمسلمين و أعود إليكم .
فلما فرغ من ذلك رحل عائداً إلى
خراسان فعبر جيحون و نزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك ، وأماالكفار فإنهم رحلوا بعد
أن استعدوا يطلبون ماواء النهر فوصلوا إلى بخارا بعد خمسة أشهر من وصول خوارزمشاه
وحصروها وقاتلوها ثلاثة أيام قتالاً شديداً متتابعاً فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم
قوة ، ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان ، فلما أصبح أهل البلد و ليس عندهم من
العسكر أحد ضعفت نفوسهم فأرسلوا القاضي وهو بدر الدين قاضيخان ليطلب الأمان للناس
فأعطوهم الأمان ، وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم
فاعتصموا بالقلعة ، فلما أجابهم جنكز خان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم
الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة فدخل الكفار بخارا ولم يتعرضوا إلى
أحد بل قالوا لهم : كل ماهو للسلطان عندكم من ذخيرة أو غيره أخرجوه إلينا وساعدونا
على قتال من بالقلعة ، و أظهروا عندهم العدل و حسن السيرة ، ودخل جنكز خان بنفسه ،
و أحاط بالقلعة ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ، و من تخلف قتل ، فحضروا جميعهم
فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب و التراب و غير ذلك ، حتى إن الكفار كانوا
يأخذون المنابر و ربعات القرآن فيلقونها في الخندق ، ثم تابعوا الزحف إلى القلعة و
بها نحو أربعمائة فارس من المسلمين فبذلوا جهدهم ومنعوا القلعة اثني عشر يوماً
يقاتلون جمع الكفار و أهل البلد فقتل بعضهم ، ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ،
ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه ، و اشتد حينئذ القتال و قد تعب من بالقلعة و
نصبوا ، وجاءهم مالا قبل لهم به فقهرهم الكفار ، و دخلوا القلعة ، وقاتلهم
المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم ، ودخل الكفار البلد فنهبوه و قتلوا من
وجدوا فيه ، و أحاط بالمسلمين ، فأمر أصحابه أن يقتسموهم فاقتسموهم ، وكان يوماً
عظيماً من كثرة البكاء من الرجال و النساء و الولدان ، و تفرقوا أيدي سبأ ، و
تمزقوا كل ممزق ، و اقتسموا النساء أيضاً ، و أصبحت بخارا خاوية على عروشها كأن لم
تغن بالأمس ، و ارتكبوا من النساء العظيم ، و الناس ينظرون و يبكون ، ولا يستطيعون
أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً مما نزل بهم ، فمنعهم من لم يرض بذلك و اختار الموت على
ذلك فقاتل حتى قتل ، ومن استسلم أخذ أسيراً ، و ألقوا النار في البلد و المدارس و
المساجد ، و عذبوا الناس بأنواع العذاب .
ثم رحلوا نحو سمرقند ، وقد تحققوا عجز
خوارزمشاه عنهم ، وهم بمكانة بين ترمذ و بلخ ، و استصحبوا معهم من سلم من أهل
بخارا أسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة ، فكل من أعيا و عجز عن المشيء قتل ،
فلما قاربوا سمرقند خرج إليهم شجعان أهله و أهل الجلد و القوة رجالة ، ولم يخرج
معهم من العسكر الخوارزميّ أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين ، فقاتلهم
الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون و أهل البلد يتبعوهم و يطمعون فيهم ،
وكان الكفار قد كمنوا لهم كميناً ، فلما جاوزوا الكمين خرجوا عليهم وحالوا بينهم
وبين البلد ، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولاً فبقوا في الوسط و أخذهم
السيف من كل جانب ، فلم يسلم منهم أحد ، قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم ،
وكانوا سبعين ألفاً على ماقيل ، فلما رأى الباقون من الجند و العامة ذلك ضعفت
نفوسهم ، و أيقنوا بالهلاك فقال الجند وكانوا أتراكاً : نحن من جنس هؤلاء ولا
يقتلون فطلبوا الأمان فأجابوهم إلى ذلك ، ففتحوا أبواب البلد ، ولم يقدر العامة
على منعهم ، وخرجوا إلى الكفار بأهلهم و أموالهم فقال لهم الكفار : ادفعوا إلينا
سلاحكم و أموالكم و دوابكم و نحن نسيركم إلى مأمنكم ، ففعلوا ذلك ، فلما أخذوا
أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم ، وأخذوا أموالهم ودوابهم و
نساءهم ، فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر
قتلوه ، فخرج جميع الرجال و النساء و الصبيان ، ففعلوا مع أهل بخارا من النهب و القتل
و السبي و الفساد ، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه ، و أحرقوا الجامع ، وتركوا باقي
البلد على حاله ، و افتضوا الأبكار ، و عذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ،
وقتلوا من لم يصلح للسبي ، و كان ذلك في محرم سنة سبع عشرة وستمائة ، وكان
خوارزمشاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدمون على
الوصول إليها.
ذكر مسير التتر إلى خوارزمشاه و انهزامه وموته
لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكز خان ،
لعنه الله ، وسير عشرين ألف فارس ، وقال لهم : اطلبوا خوارزمشاه أين كان ولو تعلق
بالسماء حتى تدركوه و تأخذوه ، فلما أمرهم جنكز خان بالمسير ساروا وقصدوا موضعاً
يسمى فنج أب ومعناه خمس مياه ، فوصلوا إليه فلم يجدوا هناك سفينة ، فعملوا من
الخشب مثل الأحواض الكبار ، كلهم دفعة واحدة ، فلم يشعر خوارزمشاه إلا وقد صاروا
معه على أرض واحده ، وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعباً وخوفاً ، و قد اختلفوا
فيما بينهم ، أنهم كانوا يتماسكون بسبب إن نهر جيحون بينهم ، فلما عبروه إليهم لم
يقدروا على الثبات ولا على المسير مجتمعين ، بل تفرقوا أيدى سبأ ، وطلب كل طائفة
منهم جهة ، ورحل خوارزمشاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته وقصدوا نيسابور ، فلما
دخلها اجتمع عليه بعض العسكر فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها ، و كانوا لم
يتعرضوا في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلون حتى
يجمع لهم ، فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران وهي له أيضاً فرحل التتر في أثره
، ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه ، فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها ، فوصل إلى
مرسى من بحر طبرستان تعرف باب سكون وله هناك قلعة في البحر ، فلما نزل هو و أصحابه
في السفن وصلت التتر ، فلما رأوا خوارزمشاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر ،
فلما أيسوا من لحاق خوارزمشاه رجعوا ، فهم الذين قصدوا الري وما بعدها ثم منها إلى
همذان ، و التتر أثره ، ففارق همذان في نفر يسير ليستر نفسه و يكتم خبره ، وعاد
إلى مازندان وركب في البحر إلى هذه القلعة ، ولما وصل خوارزمشاه إلى هذه القلعة
المذكورة توفي فيها .
الكامل في التاريخ ، لابن الأثير (9/330- 334)
بعض ما فعلوه في ديار المسلمين
((ذكر استيلاء التتر على مازندران )) :
لما أيس التتر من إدراك خوارزمشاه
عادوا فقصدوا بلاد مازندران ، فملكوها في أسرع وقت مع حصانتها و صعوبة الدخول
إليها و امتناع قلاعها ، فإنها لم تزل ممتنعة قديم الزمان و حديثه ، ولما ملكوا
بلد مازندران قتلوا وسبوا ونهبوا و أحرقوا البلاد ، ولما فرغوا من مازندران سلكوا
نحو الري فرأوا في الطريق والدة خوارزمشاه ونساءه و أموالهم و ذخائرهم التي لم
يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة ، فأخذوها وما معها قبل وصولها إلى الري ، فكان
فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم ، وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع و نفيس
من الجواهر ، وغير ذلك ، وسيروا الجميع إلى جنكز خان بسمرقند
.
(( ذكر
وصول التتر إلى الري وهمذان )) :
في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر
لعنهم الله إلى الري في طلب خوارزمشاه محمد لأنهم بلغهم أنه مضى منهزماً منهم نحو
الري فجدوا السير في أثره ، وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين و الكفار ، و
كذلك أيضاً من المفسدين من يريد النهب والشر ، فوصلوا إلى الري على حين غفلة من
أهلها ، فلم يشعروا إلا وقد وصلوا إليها وملكوها و نهبوها ، وسبوا الحريم ، و
استرقوا الأطفال ، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها ، ولم يقيموا ومضوا مسرعين
في طلب خوارزمشاه ، فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها ، وفعلوا في
الجميع أضعاف ما فعلوا في الري ، و أحرقوا وخربوا ووضعوا السيف في الرجال و النساء
و الأطفال فلم يبقوا على شيء .
و تموا على حالهم إلى همذان ، فلما
قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال و الثياب و الدواب وغير ذلك يطلب
الأمان لأهل البلد فأمنوهم ، ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك ، ثم
وصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا في قتالهم و دخلوها
عنوة بالسيف فاقتتلوا هم و أهل البلد حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين فقتل من
الفريقين ما لا يحصى ، ثم فارقوا قزوين ، فعد القتلى من أهل قزوين فزادوا على أربعين
ألف قتيل .
((ذكر
وصول التتر إلى أذربيجان )):
لما هجم الشتاء على التتر في همذان
وبلد الجبل رأوا برداً شديداً و ثلجاً متراكماً فساروا إلى أذربيجان ففعلوا في
طريقهم بالقرى و المدن الصغار من القتل و النهب مثل ما تقدم منهم وخربوا و أحرقوا
. وساروايريدون ساحل البحر لأنه يكون قليل البرد ليشتوا عليه و المراعي به كثيرة
لأجل دوابهم فوصلوا إلى موفان و تطرفوا في طريقهم إلى بلاد الكرج فجاء إليهم من
الكرج جمع كثير من العسكر نحوعشرة آلاف مقاتل فقاتلوهم فانهزمت الكرج وقتل أكثرهم
و أدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال ، وقتل منهم أيضاً كثير ، فلم يثبتوا للتر
، و انهزموا أقبح هزيمة وركبهم السيف من كل جانب ، فقتل منهم مالا يحصى كثرة ،
وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه النسة ، ونهبوا من البلاد ماكان سلم منهم .
ولقد جرى لهؤلاء التتر مالم يسمع
بمثله من قديم الزمان وحديثه ، طائفة تخرج من حدودالصين لا تمضي عليهم سنة حتى يصل
بعضهم إلى بلاد أرمينية ، من هذه الناحية و يجاوزون العراق من ناحية همذان ،
وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها
ويستبعدها ، و الحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطرنا نحن وكل من جمع
التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة استوى في معرفتها
العالم والجاهل لشهرتها- يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم و يحوطهم - فلقد
دفعوا من العدو إلى عظيم ، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه و فرجه
، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل
ما دفعوا إليه الآن ، هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ماوراء النهر وملكوها
وخربوها و ناهيك به سعة بلاد ، وتعدت طائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا
مثل ذلك ثم إلى الري وبلد الجبل و أذربيجان ، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على
بلادهم و العدو الآخر الفرنج قد ظهر من بلادهم في أقصى بلاد الروم بين الغرب و
الشمال ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط و أقاموا فيها ولم يقدر المسلمون على
إزعاجهم عنها ولا إخراجهم منها وباقي ديار مصر على خطر فإنا لله و إنا إليه راجعون
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
.
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن
سلطانهم خوارزمشاه محمداً قد عدم لا يعرف حقيقة خبره ، فتارة يقال مات عند همذان و
أخفي موته ، و تارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك و أخفي موته لئلا يقصدها التتر في
أثره ، و تارة يقال عاد إلى طبرستان و ركب البحر فتوفي في جزيرة هناك ، وبالجملة
فقد عدم ثم صح موته ببحر طبرستان ، وهذا عظيم ، مثل خراسان و عراق العجم أصبح
سائباً لا مانع له ولا سلطان يدفع عنه والعدو يجوس البلاد يأخذ ما أراد ، ويترك ما
أراد ، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوها وكل ما مروا عليه نهبوه وما لا
يصلح أحرقوه ، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالاً و يلقون فيه النار و كذلك غيره من
الأمتعة .
(( ذكر
ملك التتر مراغة )):
فلما دخلت سنة ثمان عشرة و ستمائة
ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ومضايقة تحتاج إلى قتال
و صداع فعدلوا عنهم ، وهذه كانت عادتهم إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعاً
عدلوا عنها ، فوصولوا إلى تبريز وصانعهم صاحبها بمال وثياب و دواب فساروا عنه إلى
مدينة مراغة فحصروها وليس بها صاحب يمنعها ، فلما حصروها قاتلهم أهلها فنصبوا
عليها المجانيق وزحفوا إليها ، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من
أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون و يقاتلون ، فإن عادوا قتلوا فكانوا يقتلون
كرهاً ، وهم المساكين ، وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين
الأسارى وهم بنجوة منه ، فأقاموا عليها عدة أيام ، ثم ملكوا المدينة عنوة وقهراً
رابع صفر ، و وضعوا السيف في أهلها فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ،ونهبوا كل
ما صلح لهم ومالا يصلح لهم ، و أحرقوه ، و اختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون
الأسارى و يقولون لهم نادوا في الدروب أن التتر قد رحلوا فإذا نادى أولئك خرج من
اختفى فيؤخذ و يقتل ، ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل
.
(( ذكر
ملك التتر همذان وقتل أهلها )):
عاد التتر إلى همذان فنزلوا بالقرب
منها ، وكان لهم بها رئيس يحكم فيها فأرسلوا إليه يأمرونه ليطلب من أهلها مالاً
وثياباً ، وكانوا قداستنفذوا أموالهم في طول المدة ، و أشار فقيه البلد بإخراج
رئيس التتر من البلد و الامتناع فيه ومقاتلة التتر ، فوثب العامة على الرئيس
فقتلوه و امتنعوا في البلد ، فتقدم التتر إليهم وحصروهم ، وكانت الأقوات متعذرة في
تلك البلاد جميعها لخرابها وقلت أهلها وجلاء من سلم منهم فلا يقدر أحد على الطعام
إلا قليلاً ، و أما التتر فلا يبالون لعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم و لا
تأكل دوابهم إلا نبات الأرض ، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات
فتأكلها ، فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها و الرئيس و الفقيه في أوائلهم فقتل من
التتر خلق كثير و جرح الفقيه عدة جراحات و افترقوا ، ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا
أشد من القتال الأول وقتل أيضاً من التتر أكثر من اليوم الأول و جرح الفقيه أيضاً
عدة جراحات و هو صابر ، و أرادوا أيضاً الخروج في اليوم الثالث فلم يطق الفقيه
الركوب و طلب الناس الرئيس فلم يجدوه كان قد هرب و اجتمعت كلمتهم على القتال إلى
أن يموتوا فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه ، و كان التتر قد عزموا على الرحيل
لكثرة من قتل منهم ، فلما لم يروا أحداً خرج إليهم من البلد طمعوا و استدلوا على
ضعف أهله فقصدوهم و قاتلوهم في رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة ودخلوا المدينة
بالسيف وقاتلهم الناس في الدروب فبطل السلاح للزحمة و اقتتلوا بالسكاكين ، فقتل من
الفريقين مالا يحصيه إلا الله تعالى ، وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلاً ،
ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه ، وبقي القتل في المسلمين عدة أيام،
ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه و رحلوا عنها إلى مدينة أردويل .
((ذكر
مسير التتر إلى أذربيجان )):
رحل التتار إلى مدينة سراو فنهبوها و
قتلوا كل من فيها ، ورحلوا منها إلى بيلقان من بلاد أران ، فنهبوا كل ما مروا به
من البلاد و القرى ، وخربوا و قتلوا من ظفروا به من أهلها ، فلما وصلوا إلى بيلقان
حضروها فاستدعى أهلها منهم رسولاً يقرون معه الصلح ، فأرسلوا إليهم رسولاً من
أكابرهم و مقدمهم فقتله أهل البلد ، فزحف التتر إليهم و قاتلوهم ، ثم إنهم ملكوا
البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير
ولا امرأة ، حتى إنهم يشقون بطون الحبالى و يقتلون الأجنة ، وكانوا يفجرون بالمرأة
ثم يقتلونها ، و كان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد
حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يداً ، فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها
من النهب و التخريب ، وساروا إلى مدينة كنجة وهي أم بلاد أران فعلموا بكثرة أهلها
وشجاعتهم لكثرة دربتهم بقتال الكرج و حصانتهم فلم يقدموا عليها فأرسلوا إلى أهلها
يطلبون منهم المال و الثياب فحملوا إليهم ما طلبوا فساروا عنهم .
(( ذكر
وصول التتر إلى بلاد الكرج )):
لما فرغ التتر من بلاد المسلمين
بأذربيجان و أران بعضه بالملك و بعضه بالصلح ، وساروا إلى بلاد الكرج من هذه
الأعمال أيضاً ، وكان الكرج قد أعدوا لهم و استعدوا وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف
بلادهم ليمنعوا التتر عنها ، فوصل إليهم التتر فالتقوا فلم يثبت الكرج بل ولوا
منهزمين ، فأخذهم السيف فلم يسلم منهم إلا الشريد ، ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو
ثلاثين ألفاً ، و نهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم و خربوها وفعلوا بها ماهو عادتهم
، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمع جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً
ليمنعوهم من توسط بلادهم فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا
غير ذلك ، فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس فأخلوا البلاد، ففعل التتر فيها ما
أرادوا من النهب و القتل و التخريب ، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق فلم يتجاسروا على
الوغول فيها فعادوا عنها ، وداخل الكرج منهم خوف عظيم حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج
وكان قدم رسولاً أنه قال : من حدّثكم أن التتر انهزموا و أسروا فلا تصدقوه ، و إذا
حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا ، فإن القوم لا يفرون أبداً ، ولقد أخذنا أسيراً منهم
فألقى نفسه من الدابة و ضرب نفسه بالحجر إلى أن مات ولم يسلم نفسه للأسر .
(( ذكر
وصولهم إلى دربندشروان وما فعلوه )):
لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا
دربندشروان ، فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها فصبروا على الحصر ، ثم إن التتر
صعدوا سورها بالسلاليم وقيل بل جمعوا كثيراً من الجمال و البقر و الغنم و غير ذلك
ومن قتلى الناس منهم وممن قتل من غيرهم و ألقوا بعضه فوق بعض ، فصار مثل التل ،
وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها فصبروا ، واشتد القتال ثلاثة أيام
فأشرفوا على أن يؤخذوا فقالوا : السيف لا بد منه ، فالصبر أولى بنا نموت كراماً ،
فصبروا تلك الليلة فأنتنت تلك الجيف و انهضمت ، فلم يبقى للتتر على السور استعلاء
ولا تسلط على الحرب ، فعادوا الزحف وملازمة القتال فضجر أهلها ومسهم التعب و
الكلال و الإعياء فضعفوا ، فملك التتر البلد وقتلوا فيه كثيراً ونهبوا الأموال و
استباحوها .
(( ذكر
ما فعلوه باللان و قفجاق )):
لما عبر التتر دربند شروان ساروا في
تلك الأعمال ، و فيها أمم كثيرة منهم اللان و اللكز و طوائف من الترك ، فنهبوه و
قتلوا من اللكز كثيراً ، وهم مسلمون و كفار ، و أوقعوا بمن عداهم من أهل تلك
البلاد ، و وصلوا إلى اللان و هم أمم كثيرة ، وقد بلغهم خبرهم فجدوا و جمعوا عندهم
جمعاً من قفجاق فقاتلوهم فلم تظفر إحدى الطائفتين بالأخرى ، فأرسل التتر إلى قفجاق
يقولون : نحن و أنتم جنس واحد ، وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم ، ولا دينكم
مثل دينهم ، ونحن نعاهدكم أننا لا نعترض إليكم ، و نحمل إليكم من الأموال و الثياب
ما شئتم و تتركون بيننا وبينهم ، فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه و ثياب وغير
ذلك ، فحملوا إليهم ما استقروا وفارقهم قفجاق ، فأوقع التتر باللان فقتلوا منهم
وأكثروا و نهبوا و سبوا ، وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من
الصلح فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول ، و
أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم ، و سمع من كان بعيد الدار من قفاج الخبر ففروا
من غير قتال و أبعدوا وبعضهم اعتصم بالغياض و بعضهم بالجبال و بعضهم لحق ببلاد
الروس ، و أقام التتر في بلاد قفجاق وهي أرض كثيرة المرعى في الشتاء و الصيف .
((ذكر
ما فعله التتر بقفجاق و الروس )):
لما استولى التتر على أرض قفجاق سار
طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس وهي بلاد كثيرة طويلة عريضة تجاورهم ، وأهلها
يدينون بالنصرانية ، فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم و اتفقت كلمتهم على قتال التتر
إن قصدوهم ، وأقام التتر بأرض قفجاق مدة ، ثم إنهم ساروا سنة عشرين و ستمائة إلى
بلاد الروس فسمع الروس و قفجاق خبرهم و كانوا مستعدين لقتالهم فساروا إلى طريق
التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا بلادهم ليمنعوهم عنها ، فبلغ مسيرهم التتر فعادوا على
أعقابهم راجعين ، فطمع الروس و قفجاق فيهم و ظنوا أنهم عادوا خوفاً منهم وعجزاً عن
قتالهم فجدوا في اتباعهم ، ولم يزل التتر راجعين و أولئك يقفون أثرهم اثني عشر
يوماً ، ثم إن التتر عطفوا على الروس و قفجاق فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على
غرة منهم لأنهم كانوا قد أمنوا التتر و استشعروا القدرة عليهم فلم يجتمعوا للقتال
إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغاً عظيماً ، فصبر الطائفتان صبراً لم يسمع بمثله ،
ودام القتال بينهم عدة أيام ، ثم إن التتر ظفروا و استظهروا فانهزم قفجاق و الروس
هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا
القليل ، ونهب جميع ما معهم .
(( ذكر
عود التتر من بلاد الروس و قفجاق إلى ملكهم
)):
لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه و
نهبوا بلادهم عادوا عنها و قصدوا بلغار أواخر سنة عشرين و ستمائة ، فلما سمع أهل
بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع و خرجوا إليهم فلقوهم و استجروهم إلى أن
جاوزوا موضع الكمناء ، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم ، فبقوا في الوسط ، و أخذهم
السيف من كل ناحية ، فقتل أكثرهم ، ولم ينج منهم إلا القليل قيل أنهم كانوا نحو
أربعة آلاف رجل ، فساروا عائدين إلى ملكهم جنكز خان ، وخلت أرض قفجاق منهم ، فعاد
من سلم منهم إلى بلادهم . وكان الطريق منقطعاً مذ دخلها التتر ، فلما فارقوها
عادوا إلى بلادهم ،واتصلت الطريق ، و حملت الأمتعة كما كانت.
(( ذكر
ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارا وسمرقند
)):
قد ذكرنا ما فعله التتر التي سيرها
ملكهم جنكز خان لعنه الله إلى خوارزمشاه ، وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه
الطائفة إلى خوارزم شاه وبعد انهزام خوارزمشاه من خراسان قسم أصحابه عدة أقسام ،
فسير قسماً منها إلى بلاد فرغانه ليملكوها ، وسير قسماً آخر منها إلى ترمذ ، وسير
قسماً منها إلى كلابة وهي قلعة حصينة على جانب جيحون من أحصن القلاع و أمنع الحصون
، فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها و نازلتها و استولت عليها وفعلت من
القتل و الأسر و السبي و النهب و التخريب و أنواع الفساد مثل ما فعل أصحابهم ،
فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكز خان وهو بسمرقند فجهز جيشاً عظيماً مع أحد
أولاده و سيره إلى خوارزم ، و سير جيشاً آخر فعبروا جيحون إلى خراسان .
(( ذكر
ملك التتر خراسان )):
لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان
عبروا جيحون و قصدوا مدينة بلخ فطلب أهلها الأمان فأمنوهم فسلم البلد سنة سبع عشرة
و ستمائة ولم يتعرضوا إليه بنهب ولا قتل ، جعلوا فيه رئيساً وساروا وقصدوا الزوزان
و سميند و اندخوى و قاريات فملكوا الجميع و جعلوا فيه ولاة و لم يتعرضوا إلى أهلها
بسوء ولا أذى سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم ، حتى
وصلوا إلى الطالقان وفيها قلعة حصينة يقال لها متصوركوه لاترام علواً وارتفاعاً
وبها رجال يقاتلون شجعان فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلاً و نهاراً ولا
يظفرون منها بشيء فأرسلوا إلى جنكز خان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة لكثرة من
فيها من المقاتلة ولامتناعها بحصانتها ، فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم
وحصرها ،ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى ، فأمرهم بمباشرة القتال و إلا قتلهم
فقاتلوا معه ، و أقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير ، فلما
رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب و الأخشاب ما أمكن جمعه ، ففعلوا ذلك ،
وصاروا يعملون صفاً من خشب وفوقه صفاً من تراب ، فلم يزالوا كذلك حتى صار تلاً
عالياً يوازي القلعه فاجتمع من بها ، وفتحوا بابها ، وخرجوا منها ، وحملوا حملة
رجل واحد فسلم الخيالة منهم و نجوا و سلكوا تلك الجبال و الشعاب ، و أما الرجالة
فقتلوا ، و دخل التتر القلعة وسبوا النساء و الأطفال ، ونهبوا الأموال و الأمتعة ،
ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد التي أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها و سيرهم مع بعض
أولاده إلى مدينة مرو فدخلواإليها ، وقد اجتمع بها من الأعراب و الأتراك و غيرهم
ممن نجا من المسلمين ما يزيد عن مائتي ألف رجل ، وهم معسكرون بظاهر مرو ، وهم
عازمون على لقاء التتر ، ويحدثون نفوسهم بالغلبة و الاستيلاء عليهم ، فلما وصل
التتر إليهم التقوا و اقتتلوا فصبر المسلمون ، فلما رأى المسلمون صبر التتر و
إقدامهم ولوا منهزمين ، فقتل التتر منهم و أسروا الكثير و لم يسلم إلا القليل ،
ونهبت أموالهم و سلاحهم و دوابهم ، و أرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون
الرجال لحصار مرو ، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو و حصروها و جدوا في
حصرها ولازموا القتال ، و كان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر و كثرة القتل
و الأسر فيهم ، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أرسل التتر إلى الأمير الذي بها
متقدماً على من فيها يقولون له : لا تهلك نفسك و أهل البلد و اخرج إلينا فنحن
نجعلك أمير هذه البلدة و نرحل عنك ، فأرسل يطلب الأمان لنفسه و لأهل بلده فأمنهم ،
فخرج إليهم فخلع عليه ابن جنكزخان و احترمه ، وقال له : أريد أن تعرض عليّ أصحابك
حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه و أعطيناه أقطاعاً و يكون معنا ، فلما حضروا
عنده و تمكن منهم قبض عليهم وعلى أميرهم وكتفوهم، فلما فرغ منهم قال لهم :
اكتبواإلي تجار البلد ورؤسائه و أرباب الأموال في جريدة و اكتبوا إلي أرباب
الصناعات والحرف في نسخة أخرى ، و اعرضوا ذلك علينا ، ففعلوا ما أمرهم ، فلما وقف
على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهلهم ، فخرجوا كلهم ولم يبق فيه أحد ، فجلس
على كرسي من ذهب ، و أمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم ، فأحضروا و ضربت
رقابهم صبراً و الناس ينظرون و يبكون ،و أخذوا أرباب الأموال فضربوهم و عذبوهم
بأنواع العقوبات في طلب الأموال فربما ما ت أحدهم من شدة الضرب ، ولم يكن بقي له
ما يفتدي به نفسه ، ثم إنهم أحرقوا البلد ، فبقوا كذلك ثلاثة أيام ، فلما كان
اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة ، وقال : هؤلاء عصوا علينا فقتلوهم أجمعين ،
و أمر بإحصاء القتلى فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل ، فإنا لله و إنا إليه راجعون
مما جرى على المسلمين ذلك اليوم .
ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة
أيام ، وبها جمع صالح من العسكر الإسلاميّ فلم يكن لهم بالتتر قوة ، فملكوا
المدينة و أخرجوا أهلها إلى الصحراء ، فقتلوهم و سبوا حريمهم ، وعاقبوا من اتهموه
بمال كما فعلوا بمرو ، و أقاموا خمسة عشر يوماً يخربون و يفتشون المنازل عن
الأموال ، وكانوا لما قتلوا أهل مرو وقيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير ، ونجوا إلى
بلاد الإسلام ، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد ، فلما
فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك أيضاً ، و خربوها حتى
جعلوا الجميع خراباً ، ثم ساروا إلى هراة ، وهي من أحصن البلاد ، فحصروها عشرة
أيام ، فملكوها و أمنوا أهلها و قتلوا منها البعض و جعلوا عند من سلم منهم رئيساً
، وساروا إلى غزنة فلقيهم جلال الدين بن خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم ، فوثب أهل
هراة على الرئيس فقتلوه ، فلما عاد المهزومون عليهم دخلوا البلد قهراً و عنوة
وقتلوا كل من فيه ونهبوا الأموال ، وسبوا الحريم ، و نهبوا السواد ، وخربوا
المدينة جميعها و أحرقوها ، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا
إلى جميع بلاد خراسان ، ففعلوا بها كذلك ، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد
، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة
.
(( ذكر
ملكهم خوارزم و تخريبها )):
و أما الطائفة من الجيش التي سيرها
جنكزخان إلى خوارزم فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلاد ، فساروا حتى وصلوا
إلى خوارزم ، وفيها عسكر كبير و أهل البلد معروفون بالشجاعة و الكثرة ، فقاتلوهم
أشد قتال سمع به الناس ، و دام الحصر لهم خمسة أشهر ، فقتل من الفريقين خلق كثير
إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر ، لأن المسلمين كان يحميهم السور ، فأرسل التتر
إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد فأمدهم بخلق كثير ، فلما وصلوا إلى البلد زحفوا
زحفاً متتابعاً فملكوا طرفاً منه ، فاجتمع أهل البلد و قاتلوهم في طرف الموضع الذي
ملكوا فلم يقدروا على إخراجهم و لم يزالوا يقاتلونهم و التتر يملكون منهم محلة بعد
محلة ، كلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم، فكان الرجال و
النساء و الصبيان يقاتلون ، فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه ، وقتلوا كل من
فيه ، ونهبواكل ما فيه ، ثم إنهم فتحوا السد الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله
الماء فغرق البلد جميعه ، و تهدمت الأبنية ، وبقي موضعه ماء و لم يسلم من أهله أحد
البتة ، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله ، منهم من يختفي ، ومنهم من يهرب
، ومنهم من يخرج ثم يسلم ، و منهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو ، و أما أهل
خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء أو قتله الهدم فأصبحت خراباً بياباً :
كأن لم يكن بين الحجون إلى
الصفا...أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فلما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا
إلى ملكهم بالطالقان.
(( ذكر
ملك التتر غزنة وبلاد الغور )):
لما فرغ التتر من خراسان و خوارزم و
عادوا إلى ملكهم سير جيشاً كثيفاً إلى غزنة و بها جلال الدين بن خوارزمشاه مالكاً
لها ، وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر ابيه قيل وكان ستين ألفاً ، فلما وصلوا إلى
أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خورزمشاه إلى موضع يقال له بلق ، فالتقوا
هناك و اقتتلوا قتالاً شديداً و بقوا كذلك ثلاثة أيام ، ثم أنزل الله نصره على
المسلمين فانهزم التتر ، وقتلهم المسلمون كيف شاؤا ، و من سلم منهم عاد إلى ملكهم
بالطالقان ، فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه ، فسير
إليهم جنكز خان عسكراً فملكوا البلد و خربوه ، فلما انهزم التتر أرسل جلال الدين
رسولاً إلى جنكزخان يقول له : في أي موضع تريد يكون الحرب حتى نأتي إليه ، فجهز
جنكزخان عسكراً كثيراً أكثر من الأول مع بعض أولاده و سيره إليه فوصل إلى كابل
فتوجه العسكر الإسلاميّ إليهم و تصافوا هناك و جرى بينهم قتال عظيم ، فانهزم
الكفار ثانياً فقتل كثير منهم ، و غنم المسلمون مامعهم ، و كان عظيماً ، و كان
معهم من أسارى المسلمين خلق كثير فاستنقذوهم ، ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل
الغنيمة ، و سبب ذلك أن أميراً منهم يقال له سيف الدين بغراق كان شجاعاً و اصطلى
الحرب مع التتر بنفسه وقال لعسكر جلال الدين : تأخروا أنتم فقد ملئتم منهم رعباً ،
وهو الذي كسر التتر على الحقيقة ، وكان من المسلمين أيضاً أمير كبير يقال له ملك
خان، فاختلف هذان الأميران في الغنيمة ، فاقتتلوا فقتل بينهم أخ لبغراق فقال بغراق
: أنا أهزم الكفار و يقتل أخي لأجل هذا السحت ، فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند
، فتبعه من العسكر ثلاثون ألفاً كلهم يريدونه ، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق وسار
بنفسه إليه ، وذكره الجهاد وخوفه من الله تعالى ، و بكى بين يديه ، فلم يرجع وسار
مفارقاً ،فانكسر لذلك المسلمون و ضعفوا ، فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان
قد وصل في جموعه و جيوشه ، فلما رأى جلال الدين صعف المسلمين لأجل من فارقهم من
العسكر ولم يقدر على المقام سار نحو بلاد الهند فوصل إلى ماء السند وهو نهر كبير
فلم يجد من السفن ما يعبر فيه ، وكان جنكزخان يقص أثره مسرعاً فلم يتمكن جلال
الدين من العبور حتى أدركه جنكزخان في التتر ، فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال و
الصبر لتعذر العبور عليهم ، فتصافوا و اقتتلوا أشد قتال ، اعترفوا كلهم أن كل ما
مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال ، فبقوا كذلك ثلاثة أيام ، فقتل
الأمير ملك خان و خلق كثير ، و كان القتل في الكفار أكثر و الجراح أعظم فرجع
الكفار عنهم فأبعدوا و نزلوا ، فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم وقد ازدادوا
ضعفاً بمن قتل منهم وجرح ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك فأرسلوا يطلبون السفن
فوصلت و عبر المسلمون ، فلما كان الغد عادالكفار إلى غزنة وقد قويت نفوسهم بعبور
المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم ، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من
العساكر و المحامي فقتلوا أهلها،ونهبوا الأموال ، وسبوا الحريم ولم يبق أحد ،
وخربوها و أحرقوها ، وفعلوا بسوادها كذلك و نهبوا وقتلوا و أحرقوا ، فأصبحت تلك
الأعمال جميعها خالية من الأنيس خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس .
(4) : سقوط
بغداد
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى
: ( استهلت سنة 656، وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة
عساكر سلطان التتارهولا كوخان ، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على
البغاددة وميرته وهداياه وتحفه ، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار ، ومصانعة لهم
قبحهم الله تعالى.
وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق
والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئاً ،
كما ورد في الأثر : ( لن يغني حذر عن قدر )، وكما قال تعالى : ( إن أجل الله إذا
جاء لا يؤخر ) ، وقال تعالى :( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال
) .
وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها
بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه ، وكانت من
جملة حظاياه ، وكانت مولدة تسمى عرفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص
بين يدي الخليفة ، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً ، وأحضر السهم الذي
أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب : إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي
العقول عقولهم ، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز ، وكثرت الستائر على دار
الخلافة.
وكان قدوم هولاكو بجنوده كلها -
وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل – إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة ، وهو
شديد الحنق على الخليفة بسبب ماكان تقدم من الأمر الذي قدره الله وأنفذه وأمضاه،
وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مؤيد
الدين العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة عما يريده
من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره ، وقالوا : إن
الوزيرإنما يريد مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال ، و أشاروا بأن يبعث
بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هولاكو ، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه
دويداره المذكور ، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولابالا به حتى أزف قدومه .
ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة
الفاجرة الظالمة الغاشمة ، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، فأحاطوا ببغداد
من ناحيتها الغربية والشرقية ، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة ،لايبلغون
عشرة آلاف فارس ،وهم بقية الجيش ، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير
منهم في الأسواق وأبواب المساجد ، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على
الإسلام وأهله ، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي ، وذلك أنه لما كان
في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة
الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير ، فاشتد حنقه على ذلك ، فكان هذا مما أهاجه
على أن دبر على الإسلام وأهله ماوقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ
بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات .
ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو
فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هولاكو لعنه الله ، ثم عاد فأشار
على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج
العراق لهم ونصف للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء
والصوفية ورؤس الأمراء والدولة والأعيان ، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو
حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين ، وأنزل
الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم ، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله
عن أشياء كثيرة فيقال : إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت
، ثم عاد الخليفة إلى بغداد وفي صحبته خوجه نصير الدين الطوسي والوزير العلقمي
وغيرهما ، والخليفة تحت الحوطة و المصادرة ، فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من
الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة ، وقد أشار أولئك الملأ من
الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة ، وقال الوزير : متى
وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ماكان عليه
قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة ، فلما عاد من الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله،
ويقال : إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي ، وكان
النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي
الإسماعيلية ، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس ولأبيه من قبل علاء الدين بن جلال
الدين ، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو
وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فقتلوه رفساً وهو في جوا لق لئلا يقع
على الأرض شيء من دمه ، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم ، وقيل : بل خنق ، ويقال
:بل أغرق فالله أعلم ، فباؤا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة
والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده
.
فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال
والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن
الحشوش ، وكمنوا أياماً لا يظهرون ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات
ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم
فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة ، حتى تجري الميازيب من الدماء
في الأزقة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم
ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير
ابن العلقمي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى
سلموا وسلمت لهم أموالهم .
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن
كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة وقلة ، وكان
الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان،
فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف منهم من الأمراء من هو
كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف ،
ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد ، وسهل عليهم ذلك ، وحكى لهم حقيقة الحال ،
وكشف لهم ضعف الرجال؛ وذلك كله طمعاً منه أن يزيل السنّة بالكلية ، وأن يظهر
البدعة الرافضة ، وأن يقيم خليفة من الفاطميين ، وأن يبيد العلماء والمفتين ،
والله غالب على أمره .
وقد اختلف الناس في كمية من قتل
ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة ، فقيل : ثمانمائة ألف ، وقيل: ألف ألف
وثمانمائة ألف ، وقيل : بلغت القتلى ألفي ألف نفس ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ،
ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان دخولهم إلى بغداد في أوائل
المحرم ، ومازال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً ، وقتل مع الخليفة ولده الأكبر أبو
العباس أحمد ، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن ، وأسر ولده الأصغر مبارك
، وأسرت أخواته الثلاث : فاطمة وخديجة ومريم ، وأسر من دار الخلافة ما يقارب ألف
بكر فيما قيل ، والله أعلم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.وقتل أكابر الدولة واحداً
بعد واحد وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.
وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة
من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال ، فيذبح كما تذبح
الشاه ، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه ، وقتل الشيوخ والخطباء والأئمة وحملة
القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد ، وأراد الوزيرابن
العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد
ومحال الرفض ، وأن يبنى للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعَلَمهم بها وعليها ،
فلم يقدره الله تعالى على ذلك ، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من
هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا - والله أعلم- بالدرك الأسفل من النار .
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت
الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس ،
والقتلى في الطرقات كأنها التلول ، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من
جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى
بلاد الشام ، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح ، فاجتمع على الناس الغلاء
والوباء والفناء والطعن والطاعون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت
الأرض من كان بالمناطير والقِنىَ والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم ، وقد
أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه ، وأخذهم الوباء الشديد
فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر من يعلم السر
وأخفى .
وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو عن
بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي
بهادر، فوض إ ليه الرئاسة بها وإلى الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولاأهمله ،
بل أخذه أحذ عزيز مقتدر ، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة ، وكان شيعياً
جلداً رافضياً خبيثاً، فمات جهداً وغماً وحزناً وندماً
) .
المصدر : البداية والنهاية (13
/200-203 )
دخول الشام ، وسقوط دمشق
استهلت هذه السنة – أي سنة657 – وليس
للمسلمين خليفة ، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز.
وقد أرسل الملك الغاشم هولاكو إلى
الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه ، فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه
هدايا كثيرة وتحف فلم يحتفل به هولاكو ، بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه وأخذ
ابنه وقال : أنا أسير إلى بلاده بنفسي ، فانزعج الناصر لذلك وبعث بحريمه وأهله إلى
الكرك ليحصنهم بها ، وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً ، ولاسيما لما بلغهم أن التتار قد
قطعوا الفرات سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء فمات ناس كثير منهم ونهبوا ،
فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأقبل هولاكو فقصد الشام بجنوده
وعساكره ، وقد امتنعت عليه ( ميافارقين ) مدة سنة ونصف ، فأرسل إليها ولده أشموط
فافتتحها قسراً ، وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي فأرسله إلى أبيه وهو محاصر
حلب فقتله بين يديه ، وطيف برأسه في البلاد ، ودخلوا به إلى دمشق .
وتواترت الأخبار بقصد التتار بلاد
الشام إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو ، وجاوزوا الفرات على جسور عملوها ،
ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة فحاصروها سبعة أيام ، ثم افتتحوها
بالأمان ، ثم غدروا بأهلها ، وقتلوا منهم خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل ،
ونهبوا الأموال ، وسبوا النساء والأطفال ، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد
، فجاسوا خلال الديار ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وامتنعت عليهم القلعة شهراً ثم
استلموها بالأمان ، وخربوا أسور البلد وأسوار القلعة ، وبقيت حلب كأنها حمار أجرب
، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وقد كان أرسل هولاكو يقول لأهل حلب : نحن إنما
جئنا لقتال الملك الناصر بدمشق ، فاجعلوا لنا عندكم شحنة [ أي أميراً ] ، فإن كانت
النصرة لنا فالبلاد كلها في حكمنا ، وإن كانت علينا فإن شئتم قبلتم الشحنة ، وإن
شئتم أطلقتموه ، فأجابوه : مالك عندنا إلا السيف ، فتعجب من ضعفهم وجوابهم ، فزحف
حينئذ إليهم ، وأحاط بالبلد ، وكان ما كان بقدر الله سبحانه
.
ولما فتحت حلب أرسل صاحب حماه
بمفاتيحها إلى هولاكو ، فاستناب عليها رجلاً من العجم فخرب أسوارها كمدينة حلب
وأرسل هولاكو وهو نازل حلب جيشاُ مع
أمير من كبار دولته يقال له كتبغاوين، فوردوا دمشق في آخر صفر فأخذوها سريعاً من
غير ممانعة ولا مدافعة ، بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة ، وقد كتب هولاكو أماناً لأهل
البلد فقرئ بالميدان الأخضر ونودي به في البلد ، فأمن الناس على وجل من الغدر كما
فعل بأهل حلب ، هذا والقلعة ممتنعة مستورة ، وفي أعاليها المجانيق منصوبة والحال
شديدة ، فأحضرت التتار منجنيقاً يحمل على عجل والخيول تجرها ، وهم راكبون على
الخيل ، وأسلحتهم على أبقار كثيرة ، فنصب المنجنيق على القلعة من غربيها ، وخربوا
حيطاناً كثيرة ، وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رمياً متواتراً كالمطر المتدارك
، فهدموا كثيراً من أعاليها وشرافاتها ، وتداعت للسقوط ، فأجابهم متوليها في آخر
ذلك للمصالحة ففتحوها ، وخربوا كل بدنة فيها ، وأعالي بروجها ، وقتلوا المتولي بها
ونقيبها .
وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم
يقال له ابل سيان ، وكان لعنه الله معظماُ لدين النصارى ، فاجتمع به أساقفتهم
وقسوسهم ، فعظمهم جداً وزار كنائسهم ، فصارت لهم دولة وصولة بسببه ، وذهب طائفة من
النصارى إلى هولاكو ، وأخذوا معهم هدايا وتحفاً ، وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان
من جهته ، ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس ، وهم
ينادون بشعارهم ويقولون : ظهر الدين الصحيح دين المسيح ، ويذمون الإسلام وأهله ،
ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً ، وقماقم ملآنة
خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم ، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة
والأسواق أن يقوم لصلبهم .. ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم ، وكانت عامرة ، ولكن
كان هذا سبب خرابها ، ولله الحمد ، وضربوا بالناقوس في كنيسة مريم .. وذكر أنهم
دخلوا إلى الجامع بخمر ، وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيراً من
المساجد وغيرها ، ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء
فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها ابل سيان ، فأهينوا وطردوا ، وقدم كلام
روؤس النصارى عليهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون
.
وهذا كان في أول هذه السنة وسلطان
الشام الناصر بن العزيز مقيم في جيوش كثيرة من الأمراء وأبناء الملوك ليناجزوا
التتار إن قدموا إليهم ، ولكن الكلمة بين الجيوش مختلفة غير مؤتلفة لما يريده الله
عز وجل ، وقد عزمت طائفة من الأمراء على خلع الناصر وسجنه ومبايعة أخيه شقيقه
الملك الظاهر علي ، فلما عرف الناصر ذلك هرب إلى القلعة ، وتفرقت العساكر شذر مذر .
البداية والنهاية 13/ 215 - 220باختصار
هزيمة التتار في عين جالوت
ذكرنا في الحلقات الماضيات كيف قدم
التتار إلى البلاد العربية الإسلامية ، وقد سبقتهم سمعتهم الرهيبة وأفعالهم
المتوحشة ، فعاثوا في الأرض فساداً في بغداد وحلب ودمشق ، واتجهوا إلى الديار
المصرية ليأخذوها، وكانت تحت حكم السلطان المملوكي قطز.
وجاء الخبر إلى الناس في مصر أن عسكر
هولاكو قد وصل إلى دمشق ، ونهب البلاد ، وقتل العباد ، فاضطربت من هذا الخبر
القاهرة ، وعظمت البلية ، ووصلت رسل خمسة من هولاكو برسالة جاء فيها بعد كلام فيه
احتقار للمماليك : ( سلموا إلينا الأمر تسلموا قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ، وقد
سمعتم أنا أخربنا البلاد وقتلنا العباد ، فلكم منا الهرب ، ولنا خلفكم الطلب ،
فمالكم من سيوفنا خلاص ، وأنتم معنا في الأقفاص ، خيولنا سوابق ، وسيوفنا صواعق ،
فقلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن تأخر عنا سلم ) .
ثم قال له بعد كلام : ( فأسرعوا إلينا
بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترميكم بشرارها ، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ ،
ولا يعصمكم منا حصن ولا حرز ، وتترك الأرض منكم خالية ، والمنازل خاوية ، فقد
أيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم ، وقد حذرنا قبلكم أهل بغداد بمثل
ذلك فما سمعوا فجرى عليهم ما سمعتم به ، وقتلنا خطيبهم الذي يزعمون أنه الخليفة ،
وخربنا عواقب الردى ) ، فها أنت ذا ترى أخي القارئ شدة التتار في كلامهم ، وقوة
تهديدهم ، وجلبهم العبارات الميئسة ، خاصة أن هولاكو ختم الرسالة بهذين البيتين :
أين المفر ولا مفـرّ لهـارب ولنا البسيطان:الثرى
والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في يـدنا
الأمـراء والخلفـاء
فماذا فعل المظفر قطز بعد هذا التهديد
الذي لا مثيل له ؟ إن الرجل توكل على مولاه الذي لا يخيب قاصده ، وقرر أن يدخل
الحرب ضد هولاكو ، وذلك بعد أن جمع الأمراء فاستشارهم فقال لهم فيما قال : ( إن
تأخرتم عن قتالهم ملكوا الديار المصرية ، وفعلوا بنا كما فعلوا في بغداد )، فأجمع
أمرهم على الخروج إلى هولاكو ، وهنا فعل قطز فعلاً عجيباً لا يقدم عليه إلا من كان
قد عقد العزم على المناجزة ، وبث الرعب في العدو المقابل ، وذلك أنه أمر بالرسل
الخمسة فقتلوا ، وهذا مخالف لما هو معروف من أن الرسل لا يقتلون ، لكنه صنع هذا
ليخيف الأعداء ويشعرهم بقوته وهيبته وسطوته
.
واستعد المظفر قطز للقتال وجمع عدداً
ضخماً من الجنود بينهم كثير من عربان الشرقية والغربية ، ونادى بالنفير العام إلى
الغزو في سبيل الله تعالى ، فاجتمع عنده من عساكر مصر نحو أربعين ألفاً ، ثم برزت
مشكلة جمع الأموال اللازمة لهذا الجهاد ، فعقد مجلساً دعى إليه القضاة والمشايخ ،
وكان على رأسهم شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ،
واستشار السلطان قطز عز الدين بن عبد السلام في شأن المال ، فقال الإمام كلاماً
عظيماً لا يصدر إلا ممن وثق بنصر الله تعالى لعبيده فقال : (اخرجوا وأنا أضمن لكم
على الله النصر )، فقال السلطان : ( إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض
من أموال التجار )، فقال له الإمام ابن عبد السلام :( إذا أحضرت ما عندك وعند
حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه ، وضربته سكة ونقداً ،
وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ، ذلك الوقت اطلب القرض ، وأما قبل ذلك فلا )،
فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ ، وكانت له عندهم عظمة ،
وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته ، فامتثلوا ما قاله ، وهذا يدل على
أن لمشايخ الإسلام القدماء عظمة ومكانة لا تدانيها مكانة
.
وأما قول العز بن عبد السلام :(
اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر ) فهو من باب الثقة بنصر الله تعالى ، وأن
النصر يتنزل إن حققت شروطه ، والشيخ قد رأى أن شروطه تحققت ، أو أن ذلك من باب
الكرامة للشيخ رحمه الله تعالى ، ويشبه هذا ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه
كان يقسم للناس أن الله سينصرهم على التتار في وقعة شقحب سنة 702هـ وكانت مع
التتار أيضاً ، وكان إذا قيل له : قل إن شاء الله يقول : إن شاء الله تحقيقاً لا
تعليقاً .
ثم إن المظفر قطزاً جمع المال من
الناس ، فقرر على كل رأس من أهل مصر والقاهرة من كبير وصغير ديناراً واحداً ، وأخذ
من أجرة الأملاك شهراً واحداً ، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً
، وأخذ أشياء أخرى كثيرة ، واجتمع له من الأموال بسبب هذا ستمائة ألف دينار وكسور
، فأنفق ذلك على العسكر والعربان وجهز جيشه ، والطريف أن أحد الشعراء قال في صنيعه
هذا الذي اتكأ فيه على فتوى الإمام ابن عبد السلام
:
إن سلطاننا الذي نرتجيـه واسع الحال
ضيق الإنفـاق
هو سـيف كما يقـال ولكـن قاطـع
للرســوم والأرزاق
وصل المظفر قطز إلى فلسطين في موقع
هنالك يقال له ( عين جالوت ) ، وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 658 ، وكان
يوم جمعة ، فلما رأى جنود التتار وكثرتهم قال رحمه الله تعالى للأمراء والجيوش
الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا
الخطباء والناس في صلاتهم ، وقد التقى مع التتار فانكسر الجيش الإسلامي ابتداء ،
فترجل عن جواده ورمى خوذته وقال : وا إسلاماه ، فكان لهذه الكلمة فعلها في النفوس
، فاجتهد الجند والأمراء وقاتلوا قتالاً هائلاً ، وكان بينهما ما تشيب من هوله
النواصي ، وقتل من الفريقين عسكر لا يحصى في معركة هائلة ، ثم انجلت المعركة عن
هزيمة شنيعة للتتار ما ذاقوا مثلها من قبل ، وقتل قائدهم المحنك كَتْبُغانُوِين
نائب هولاكو على بلاد الشام ، ولله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وما
قامت للتتار قائمة بعد تلك المعركة ، بل كان أمرهم إلى بوار ، وفرح المسلمون فرحاً
شديداً بهذه النتيجة ، واتبعوا التتار يقتلونهم في كل موضع ، وهرب التتار من دمشق
وحلب ، وأيد الله الإسلام وأهله ، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين الذين
فرحوا بانتصار التتار قبل ذلك ، وظهر دين الله وهم كارهون
.
وبعد : لقد نصر الله المسلمين في عين
جالوت نصراً عظيماً لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقعه ، والمسلمون اليوم تحيط بهم
أخطار كثيرة من جهات عديدة لكن بشائر النصر قريبة إن شاء الله تعالى ، فهاهم أسود
الله في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون راية الدين
عالية ، ويثبتون للدنيا جميعها أن هذه الأمة لا تموت ، ولا ينبغي لها أن تموت ،
وأن رحمها ولود بالأبطال ، وأنها تستعصي على كل المؤامرات الدولية والمؤتمرات
التيئيسية .
من هو جنكيزخان ؟
السلطان الأعظم عند التتار ، وهوالذي
وضع لهم السياسا التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها ، وأكثرها مخالف لشرائع الله
تعالى وكتبه ، وهو شيء اقترحه من عند نفسه ، وتبعوه في ذلك ، وكانت تزعم أمه أنها
حملته من شعاع الشمس ، فلهذا لا يعرف له أب ، والظاهر أنه مجهول النسب .
وكان في ابتداء أمره خصيصاً عند الملك
أز بك خان ، وكان إذ ذاك شاباًحسناً ، وكان اسمه أولاً تمرجي ، ثم لما عظم سمى
نفسه جنكيزخان ، وكان هذا الملك قد قربه وأدناه ، فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه
حتى أخرجوه عليه ، ولم يقتله ولم يجد له طريقاً في ذنب يتسلط عليه به ، فهو في ذلك
إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيز خان فأكرمهما وأحسن
إليهما ، فأخبراه بما يضمره الملك أز بك خان من قتله ، فأخذ حذره وتحيز بدولة ،
وأتبعه طوائف من التتار ، وصار كثيراً من أصحاب أز بك خان ينفرون إليه ويفدون عليه
فيكرمهم ويعطيهم ، حتى قويت شوكته وكثرت جنوده ، ثم حارب بعد ذلك أز بك خان فظفر
به وقتله ، واستحوذ على مملكته وملكه ، وعظم أمره وبعد صيته ، وخضعت له قبائل
الترك كلها حتى صار يركب في نحو ثمانمائة ألف مقاتل ، وأكثر القبائل قبيلته التي
هو منها ، وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم .
ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء
الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان وأذربيجان والعراق وغير ذلك ، فقهره جنكيز خان
وغلبه واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة بلا منازع ولا مدافع ،
كما ذكرنا في الحلقات السابقة ، وكان ابتداء ملك جنكيز خان سنة 599 هـ ، ووفاته
سنة 624هـ ، فجعلوه في تابوت من حديد وعلقوه بين جبلين هنالك
.
وأما كتابه الياسا فإنه كان يكتب في
مجلدين بخط غليظ ، ويحمل على بعير عندهم ، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً ثم
ينزل ثم يصعد ثم ينزل مراراً حتى يعي ويقع مغشياً عليه ، ويأمر من عنده أن يكتب ما
يلقى على لسانه حينئذ ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه
بما فيها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire