رواية كفاح طيبة
"كفاح طيبة" ( صدرت سنة 1944) ،
الرواية الأخيرة فى هذه المرحلة ، فمن الصفحة الأولى فيها تقابلنا الروح المصيرية
القوية التي تمجد الشعب المصري واستبساله وعدم قبوله للذل والخنوع، وحتى لو بدا
هذا الشعب خاملاً مستسلماً لمستعبديه، فأنه يظل يحمل في أعماقه بذرة الثورة التي
سرعان ما تتفجر عندما تجد زعيماً أو قائداً يحركها، وأتصور أن هذا العنصر الدلالي
في الرواية يصل بين "كفاح طيبة" رواية توفيق الحكيم "عودة
الروح" التي صدرت سنة 1931، خصوصا في الدائرة الدلالية التي ترد وحدة الأمة
إلى القائد الذي يجمع شملها ، ويقودها إلى النصر على أعدائها والصلة بين الروايتين
نابعة من التأثر بثورة 1919 التي أشار إليها الحكيم مباشرة في روايته، والتي
استلهمها نجيب محفوظ بأكثر من معنى في بحثة الروائي عن نماذج الانتصار القومي على
الاستعمار في التاريخ المصري القديم ، ولذلك فإن كل جزء من الأجزاء الثلاثة
الصغيرة للرواية يصور مرحلة من مراحل كفاح طيبة طالباً للاستقلال : الجزء الأول
يصور هزيمة سيكنزع أمام الهكسوس لعدم تسلحه الكافي، والجزء الثاني يصور كفاح أسرته
التي هربت إلى النوبة لتعد العدة للثأر وتحرير أرض مصر، أما الثالث ، فهو يصور
النضال المسلح لشعب مصر ضد المستعمر، وينتهي بجلاء الهكسوس عن أرض النيل العزيزة،
وهو القسم الذي يبرز شخصية "المخلص" أحمس الذي تجسدت بحضوره وحدة الأمة،
واستطاع بحفاظه على هذه الوحدة أن يحقق الحرية والاستقلال. والجزء الثاني من
الرواية بوجه خاص، يلفت الانتباه بتورياته السياسية حيث يقدم نجيب محفوظ صورة مصر
الفرعونية من وجهة نظره الوطنية، حتى ليشعر القارئ أمام كل سطر من سطورها بأنها
صورة مصر المعاصرة في هذه الفترة بما فيها من حكام أجانب يحتقرون أبناءها وينهبون
خيراتها، فمصر الفرعونية كمصر الحديثة في فترة كتابة الرواية، بلد حكامها الأجانب
يعاونون المستعمر الجاثم على استعباد أبنائها، ومن الطبيعي في مثل هذه الحال أن
تنقلب موازين القيم فتصبح السرقة حلالاً للأغنياء وحدهم، خذ مثلاً هذا الجزء من
"كفاح طيبة" الذي يسأل أحمس فيه أحد اللصوص : "ألا تخشى الخفراء؟
فيجيبه اللص قائلاً : أخشاهم أكبر خشية ياسيدي ، لأنه غير مسموح بالسرق في هذا
البلد لغير الأغنياء والحكّام ، فأمن طونا على قول اللص قائلاً: القاعدة في مصر أن
يسرق الأغنياء الفقراء، ولكن لا يجوز أن يسرق الفقراء الأغنياء" ، وما دام
الأمر على هذه الحال، فلا غرابة أن نعرف أن القانون في هذا البلد يقف إلى جانب
الأغنياء والحكام وحدهم، أما الفقراء فإلى الجحيم بفقرهم وذلهم، فالقاضي يحكم
للضابط الأجنبي على حساب امراة فقيرة شريفة، رفضت أن تسلّم نفسها لهذا الضابط
فتُتهم بالسرقة والاعتداء عليه، ويشعر القارئ أن هذا الضابط الهكسوسي، بل كل
الهكسوس في " كفاح طيبة " يرمزون إلى الاحتلال الأجنبي في مصر ومن
يعاونونه من ذوي الأصول التركية، وكانوا في حكم المستعمرين في الوعي الوطني الثائر
للأمة وذلك منذ أن استعان الخديو توفيق بالاحتلال البريطاني على قومه. واقرأ هذه
الفقرة التي تصف حال مصر الفرعونية في أيام الهكسوس وستجدها تنطبق على مصر الحديثة
تحت حكم الأتراك والإنجليز: " المصريون عبيد يلقى إليهم بالفتات ويُضربون
بالسياط، أما الملك والقواد والقضاة والموظفون والملاك جميعاً فمن الرعاة، السلطان
اليوم للبيض ذوي اللحى القذرة، والمصريون عبيد في الأراضي التي كانوا بالأمس
أصحابها"، وعندما يبدأ كاموس وولي عهده أحمس في تحرير المصريين من الظلم، يقف
هؤلاء ذاهلين ، ويسأل بعضهم بعضا : " هل انتهت عبوديتنا حقاً؟ وهل نرد اليوم
أحراراً ، هل مضى زمن السوط والعصا وتعييرنا بأننا فلاحون؟".
ونستطيع أن ندرك من هذ الفقرات- وغيرها كثير- أن الاحداث التاريخية
في روايات نجيب محفوظ لا تقصد لذاتها، وإنما لما تثيره من حماسة وطنية، حماسة تدفع
القارئ إلى محاولة الثورة على الأوضاع الفاسدة ، ثم إن هذه الأحداث أيضاً كانت
تقدم بصورة تنقل لنا الكثير من أراء الكاتب التي أراد أن يشجب بها الحياة الراكدة
لمصر بمختلف جوانبها في هذه الفترة، ويحدد من خلال استبطانه التاريخ القديم الطريق
السليم للمستقبل، فإذا كان الماضي مزدهراً مليئاً بالعظمة والمجد فلماذا ، إذن لا
نغيّر من صورة الحاضر الآسنة، ونعيد صورة الماضي العظيم، ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل
، : " لا ينفع البكاء ، فإن الماضي المجيد يوغل في القدم والفناء ما دمتم
تقنعون بالتحسّر عليه، وما يلبث مجده أن يصبح قريباً إذا توثبتم للعمل له"،
وإذا كان العمل هو الطريق الوحيد لأصحاب الأرض وحدهم، ولذلك نسمع في "كفاح
طيبة" الشعار نفسه الذي رفعه أحمد لطفي السيد وأقرانه في هذه الفترة، خصوصاً
حين يقول أحمس لأحد قواده : " أعلم أن آليت على نفسي منذ اليوم الذي سعيت فيه
إلى أرض مصر في ثياب التجّار أن أجعل مصر للمصريين، فليكن هذا شعارك في حكم هذا
البلد، وليكن رائدك أن تطهره من البيض، فلن يحكم بعد اليوم إلا مصري ولن يملك إلا
مصري ".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire