أعلان الهيدر

الرئيسية المنزع العقلي عند الجاحظ - الرسائل الأدبية وكتاب الحيوان - العقل مشروعا حضاريا وثقافيا

المنزع العقلي عند الجاحظ - الرسائل الأدبية وكتاب الحيوان - العقل مشروعا حضاريا وثقافيا

المنزع العقلي عند الجاحظ - الرسائل الأدبية وكتاب الحيوان - العقل مشروعا حضاريا وثقافيا
المنزع العقلي عند الجاحظ : الرّسائل الأدبيّة وكتاب الحيوان
حصّة تأليفيّة:  العقل مشروعا حضاريّا وثقافيّا - عوامله، خصائصه، منهجه وحدوده في كتابات الجاحظ

الباكالوريا آدابا
معهد لسودة - الأستاذ: عفيف عمري
I-  من هو الجاحظ؟
* الجاحظ الإنسان: رجل قبيح المنظر نَيِّرُ العقل، وهو أبرز رجالات عصره في الفكر والأدب. ومثلما عرفناه مطبوعا على الظُّرْفِ والفكاهة ( كما هو حاله في كتاب البخلاء) فقد كان جادّا صارما في مواضع كثيرة. وهو رجل واقعيّ، ينظر إلى الأمور كما هي. وكان في حياته أحرص    على الوقت لأنّه أثمن من المال.
* الجاحظ المثقّف: رجل ذكيّ، حادّ الذّكاء، محبّ للمطالعة حتّى جعل مصاحبة الكتاب بديلا عن مخالطة البشر ومصاحبتهم، وكانت طريقة موته لا تخلو من طرافة إذ وقع عليه ركام من الكتب كانت منضّدة بإحدى رفوف مكتبته. وقد اقترن عصره بمفهوم شامل للأدب لأنّ الأدب عنده هو:  « الأخذ من كلّ شيء بطرف»، فلا يقتصر على الجانب الفنّيّ والأدبيّ وإنّما يأخذ بالمعارف كلّها. والأديب هو من يكون موسوعيّا في معارفه. وهذا ما يبرّر شغف الجاحظ المبالغ فيه بالمعرفة والعقل في أغلب مؤلّفاته.
* الجاحظ صاحب عقيدة: رغم اختلاف المواقف في عقيدته فإنّه رجل دَيِّنٌ. وهذا الشّعور الدّينيّ ظاهر في جميع آثاره حتّى أنّه جعل العقل دالاّ على عظمة الخالق وحكمته. وكان معتدلا في مواقفه وعقيدته، فهو معتزليّ ينتمي إلى فرقة متفرّعة عنها أسّسها هو، وسمّاها الجاحظيّة.  وقد جارت هذه الفرقة المعتزلة في أشياء منها نفي الصّفات عن الله وخلق القرآن، وانفردت عنها بمسائل كالقول بأنّ المعارف موجودة بالقوّة، أي بالفطرة، وليست مكتسبة، وما على الإنسان إلاّ توجيه إرادته نحو تلك المعارف واستعادتها. فالفرد ليس له كسب سوى الإرادة. ومذهب الجاحظ في التّفسير والتّأويل اجتناب الغريب منهما، فهو يذهب في أمور الدّين مذهبه في أمور العلم بالعقل دون سواه، وينبّه إلى كلّ مسألة لا تطابق العقل. فهو لا يريد إلاّ العلّة ( التّعليل) والبرهان في كلّ قضيّة يتناولها.
* الجاحظ الأديب: يريد المناسبة بين الألفاظ والمعاني ومراعاة مقتضى الحال، إذ يقول: « لكلّ ضرب من الحديث ضرب من اللّفظ، ولكلّ نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسّخيف للسّخيف، والضّعيف للضّعيف، والجَزْلُ للجَزْلِ، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال». ويقول أيضا: « ينبغي للمتكلّم أن يصرّف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات. فيجعل لكلّ طبقة من ذلك كلاما، ولكلّ حالة من ذلك مقاما، ومن تقسيم أقدار الكلام على أقدار المعاني، وتقسيم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات». ووفقا لذلك كلّه تبدو رؤية الجاحظ في الكلام مستوفية لمتطلّبات السّياق بمراعاة تلك المقولات على نحو: « خاطب القوم بما يفهمون»، والقول: « لكلّ مقام مقال»، وذلك ليكون الكلام عنده على قدر الحاجة إليه، فلا إطناب فيه ولا تقصير.
* الجاحظ المفكّر: لم يستطع التّحرّر من أسلوب الأديب ولغته، إذ أنّه يريد الاهتمام بالتّنقيح والتّهذيب في الكتابة، بمعنى أنّه لا يتنازل عن أسلوب الأديب. وهو يريد في الكتابة البيان ووضوح الدّلالة والإيجاز( الحرص على الإقناع والتّفسير)، إذ يقول: « كلّما كانت الدّلالة أوْضَحَ وأفْصَحَ، وكانت الإشارة أبْيَنَ وأنْوَرَ، كان أنْفَعَ وأنْجَعَ». ويقول: « الاستعانة بالغريب ( من الألفاظ) عجْزٌ»، ويقول: « أحسن الكلام ما كان قليلُه يغنيك عن كثيرِه، ومعناه عن ظاهر لفظه».
II-  آثار الجاحظ:
     مؤلّفات الجاحظ كثيرة العدد متنوّعة المشاغل والمواضيع، وتصنّف إلى:
* كتب في الفلسفة والاعتزال والدّين، مثل: « كتاب الاستطاعة وخلق الأفعال» ( وقد وضعه لتقرير مذهب الاعتزال)، و« كتاب الاعتزال وفضله» ( ولعلّ هذا الكتاب يسمّى « فضيلة المعتزلة»)، و« كتاب خلق القرآن»، و« كتاب الاحتجاج لنظم القرآن»، و« كتاب الإمامة»،       و« كتاب الرّدّ على اليهود»، و« كتاب الرّدّ على المشبّهة»، و« كتاب الدّلائل والاعتبار على الخلق والتّدبير»...
* كتب في السّياسة والاقتصاد، مثل « رسالة في مناقب التُّرْكِ وعامّة جُنْدِ الخلافة»...
* كتب في الاجتماع والأخلاق، مثل « كتاب أخلاق الشُّطَّارِ»، و« كتاب البخلاء» ( وهو من أهمّ هذا الصّنف من الكتب)...
* كتب في التّاريخ والجغرافيا والطّبيعيّات والرّياضيّات، مثل « كتاب الأخبار وكيف تصُحُّ؟»،   و« كتاب الملوك والأمم السّالفة والباقية»، و« كتاب الأمصار»، و« رسالة في الكيمياء»، و« كتاب المعادن»، و« كتاب نقض الطّبّ»، و« رسالة في القِيَانِ»، و« كتاب في طبقات المغنّين»، و« كتاب الكِلاَبِ»، و« كتاب الأسد والذّئب»، و« كتاب الحيوان» ( وهو أشهرها وأهمّها).
* كتب في العصبيّة وتأثير البيئة، مثل « كتاب القحطانيّة والعدنانيّة»، و« كتاب العرب والعجم»، و« كتاب العرب والمَوَالِي»، و« رسالة في فخر السّودان على البيضان»، و« كتاب مفاخرة السّودان والحُمْرَانِ»...
* كتب في الأدب والشّعر والعلوم اللّسانيّة والأدبيّة، وأهمّها « كتاب البيان والتّبيين»، و« كتاب المحاسن والأضداد والعجائب والغرائب»، و« كتاب عناصر الآداب»...
* كتب في موضوعات شتّى، مثل « كتاب الصّداقة والعداوة»، و« رسالة التّربيع والتّدوير»، و« رسالة في العشق والنّساء»، و« كتاب الإخوان»...
     هذه الكتب تشكّل موسوعة معرفيّة وعلميّة، ولم يترك فيها شاردةً ولا واردةً إلاّ ذكَرَها. فالجاحظ كان بحقّ موسوعة كلّ العصور ومكتبة تجمّعت في ذهنه، فإلى جانب تعدّد أجناس الكتب وتنوّع أسلوبه فيها وشمول موضوعاتها وقضاياها كانت من الكثرة والعدد ما لم يستطع أحَدٌ تأليفَها بمفرده خاصّة فيما يتعلّق بنسبة ما يناهز السّتّين وثلاث مئة ( 360) من الكتب والمصنّفات إليه على امتداد ما يقارب الثّمانين من الأعوام ( 80) الّتي عاشها.
III-  « كتاب الحيوان»:
     باعتبار أنّ « كتاب الحيوان» يمثّل أهمّ آثاره بما تمثّل فيه من نزعة عقليّة، فقد جمع فيه بين مرحلة التّنظير ومرحلة التّطبيق، ليصبح النّزوع إلى العقل مشروعا متكاملا. ولعلّ هذا التّكامل أجْلَى      في « كتاب الحيوان» وأوْضَحَ ممّا هو في سائر كتبه. ولهذا وجب أن نتبيّن غايات الجاحظ من وضعه:
* مقاصد التّأليف: يشتمل الكتاب على وصف طبائع الحيوانات، وتضمّن مختارات من الحكمة والأدب والظُّرْف، وكلّ ما تفرّق في كتب العلم والأدب، وما انتشر على أفواه النّاس من أشعار وأقوال وأحكام وأسمار عن الحيوانات وعلاقتها بالإنسان. ومقصد الجاحظ من وضع الكتاب   -كما أشار إلى ذلك في عدّة مواضع-بيان ما في الحيوان من الحجج على حكمة الله العجيبة وقدرته الباهرة ( العقل عند الجاحظ خادم للشّريعة).
* مصادر الجاحظ في تأليف « كتاب الحيوان»: المصادر كثيرة لما للجاحظ من معارف واسعة واطّلاع نادر على جميع الثّقافات المعروفة في عصره من عربيّة وغيرها، واطّلاع على جميع الدّيانات وتعاليمها، وعلى جميع الفِرَقِ والخصومات بينها. وتتشكّل هذه المصادر من:
-أوّلا: المصادر العربيّة، مثل آثار الأصمعيّ وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاريّ وإبراهيم النّظّام وبِشْرٍ بن المعتمر ( وهو أحد زعماء المعتزلة، وقد نظم قصيدتين في الحيوان شرحهما الجاحظ وضمّنهما في « كتاب الحيوان» ، ج1).
-ثانيّا: القرآن والحديث وما رواه الرّواة من أخبار وأشعار العرب في مؤلّفات، ومعاصري الجاحظ من العلماء والأطبّاء، فقد أكثر الجاحظ من مجالستهم والتّحدّث إليهم ومساءلتهم  بغية الاستفادة من معارفهم.
-ثالثا: المصادر الأجنبيّة: وأهمّها من الفلسفة اليونانيّة القديمة، مثل كتب أرسطو كـ « فنّ الشّعر» و« فنّ الخطابة»، و« كتاب الحيوان» على وجه الخصوص، وهو كتاب يظمّ تسعة عشر مقالة تُرْجِمَتْ إلى العربيّة ولُخِّصَتْ. وكذلك آثار فلاسفة آخرين مثل أقليمون وجالينوس، وما وجدوا عند الفُرْسِ من أساطير ومعتقدات، وما ميّز أهل الهند القديمة من حكمة. وقد نقل الجاحظ كثيرا من التّصوّرات والأمور العقديّة عن اليهود والنّصارى.
* مضمون الكتاب: إذا كان عالم الحيوان هو المضمون الأساسيّ في الكتاب، فإنّ الجاحظ صاحب العقل والموسوعة لم يلتزم بذلك. فضمّنه مسائل أخرى كثيرة في الحيوان وفي غير الحيوان. ومزج الجِدَّ بالهزْل، والعِلْمَ بالأدبِ، والفكاهةَ بالمُجُونِ مزجا غريبا عجيبا. وقد قسّم كتابه هذا إلى تسعة أجزاء:
-الجزء الأوّل: يتضمّن هذا الجزء مقدّمة ردّ فيها الجاحظ على منتقدي كتبه الّتي ذكر منها أكثر من أربعين كتابا، ثمّ ذكر فضل كتابه، وذكر بعدها بابا جعله توطئة للحديث عن الحيوان، وهو باب فضل الخَصَاءِ. وقد ذكر حيوانات أهمّها الدّيك والكلب.
-الجزء الثّاني: يتضمّن تتمّة الكلام على الكلب.
-الجزء الثّالث: يتضمّن كلاما على الحمام وطبائعه، وعلى الذِّبَّانِ، والغربان وغيرها، وفيها استطرادات إلى صدق الظّنّ والفراسة والجنون.
-الجزء الرّابع: يتضمّن كلاما على الذرّة والنّمل، والقرد والخنزير، والحيّات والظّليم. وفيه استطرادات تحدّث فيها عن النّيران بأنواعها: ما كان منها للعرب وما كان منها للعجم، ما كان للدّيانات وما كان لغير الدّيانات.
-الجزء الخامس: وقد قسّمه إلى قسمين: الأوّل، كان تتمّة للكلام عن النّار، وتفسير بعض الآيات، وفيه جمع ما قيل من مديح في النّصارى واليهود والمجوس والأنذال وصغار النّاس. والثّاني، تضمّن كلاما على بعض الحيوانات كالفأر والجرذان والسّنانير وغيرها، وعلى الفرق بين الإنسان والبهيمة، والإنسان والسّبُع.
-الجزء السّادس: ويتضمّن تفسيرا لقصيدة البهرانيّ في الحيوان، ولقصيدتي بِشْرٍ بن المعتمر، وكلاما عن الثّأر عند العرب وعلى الجبان.  ثمّ يعود فيتكلّم عن الحيوان كالهدهد والتّمساح والأرانب وغيرها.
-الجزء السّابع: يتضمّن برهانا على ما رمى به الجاحظ من وضع الكتاب ( المقصد من تأليفه)، وهي إظهار حكمة الله وقدرته الباهرة، ففيه إظهار ما امتازت به الحيوانات من الحكمة العجيبة، وما ألهمها الله من المعرفة، ووهبها من الجبن والجرأة، وأشعرها من الفطنة بما تحاذر به عدوّها.   ولم يَخْلُ هذا الجزءُ من حديث عن بعض الحيوانات كالفيل والزّرافة وغيرها.
* قيمة الكتاب: ليس المقصد النّظر في فنّ الكتابة عند الجاحظ وإنّما أسلوبه في التّأليف، إذ يقول: « متى خرج ( القارئ) من القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثَر صار إلى خبر، ثمّ يخرج من الخبر إلى الشّعر ومن الشّعر إلى نوادر، ومن الَنّوادر إلى حِكَمٍ عقليّةٍ ومقاييس شِدَادٍ، ثمّ لا يترك  هذا البابَ، ولعلّه أن يكونَ أثْقَلَ، والمَلاَلَ إليه أسْرَعَ حتّى يفضي إلى مَرَحٍ وفكاهةٍ، وإلى سُخْفٍ وخُرَافَةٍ، ولستُ أراه سُخْفًا». ويقول: « إنّي أوشّح هذا الكتاب بنوادر من ضروب الشّعر، وضروب الأحاديث، لِيُخْرِجَ قَارِئَه من بابٍ إلى بابٍ، ومن شَكْلٍ إلى شَكْلٍ، فإنّي رأيتُ الأسماعَ تَمَلُّ الأصواتَ المُطْرِبَةَ والأغاني الحسَنَةَ والأوتارَ الفصيحةَ إذا طال ذلك عليها، وإذا كانت الأوائلُ قد سارت في صغار الكتب هذه السّيرةَ، كان هذا التّدبيرُ لِمَا طالَ وكَثُرَ أصْلَحَ، وما غايتُنا من ذلك كلِّه إلاّ أن تستفيدوا خيرا».
     فالجاحظ معلّم، يمارس في الكتابة منهجا تعليميّا يضمن له الالتزام بدور تعليميّ وتثقيفيّ سواء أكان الخطاب حجاجيّا أم تفسيريّا. فالتّنقّل من موضوع إلى موضوع، والاستطراد، والمزج بين الجدّ والهزل، تضمن كلّها الإفهامَ، وتمثّل خير طريق إليه. وهذا هو أسلوبه في « كتاب الحيوان»، وهو  إذْ يأْسَفُ لسلوكه هذا المسلك فهو يرى أن لا مناص منه، بقوله: « ولولا سوءُ ظنّي بمَنْ يُظْهِرُ التِمَاسَ العِلْمِ في هذا الزّمان ويُظْهِرُ اصطناعَ الكتب في هذا الدّهر لما احتجتُ إلى مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم-مع فوائد هذا الكتاب-إلى هذه الرّياضة العلويّة وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتّى كأنّ الّذي أفيده إيّاهم أستفيده منهم، وحتّى كأنّ رغبتي في صلاحهم رغبة من رغب في دنياهم». والجاحظ يعترف بما قد عانى ههنا أكثر ممّا يمكن أن يعانيه في كتاب آخر يلتزم فيه بموضوع واحد من غير استطراد. فـ « كتاب الحيوان» ليس له وحدة تأليفيّة لأنّ الجاحظ يراعي فيه أهواء القرّاء بما يعنيه ذلك من استبعاد كلّ ما يرتبط بقواعد المنطق والعقل. فكان فيه عالِما وأديبا يرضي العلم والبلاغة معا بنفس المقدار، وكان معتزليّا راغبا في الجدل والمناظرة، فإذا لم يجد مُنَاظِرًا وضع شخصين يتناظران في مسألة من مسائله الكلاميّة، ومن ذلك أنّه في حديثه عن الكلب والدّيك ( ج 1) جعل لكلّ منهما صاحبا يذكر فضائلَه وفوائدَه ( واحد يثني على الكلب، والآخر يثني على الدّيك)...
-قيمة « كتاب الحيوان» التّاريخيّة: هو خزانة معلومات كثيرة الأصول والفروع، ومنها أيّام العرب وتاريخهم، وتاريخ غير العرب، وثقافاتهم وعاداتهم، ودياناتهم وأحوالهم الاجتماعيّة. وقد أعمل الجاحظ في هذه المسائل عقله وروحه النّقديّة إعمالا واضحا وجليّا.
-قيمته العلميّة: وقد اخْتُلِفَ في هذه القيمة ، فثمّة من اعتبر الجاحظ من أبرز علماء عصره، وآخرون حطّوا من قيمته. وممّا لا يرقى إليه شكٌّ أنّه عالم وإن نازعته الصّبغة الأدبيّة. إلاّ أنّ علمَه  لا يخلو من أضاليلَ بسبب ضعف الوسائل العلميّة في عصره. وقد كان تناوله للمواضيع العلميّة باتّباع أصول العلم في التّحقيق والتّثبّت والتّريّث، وكان انتماؤه للفكر الاعتزاليّ محرّكه في ذلك جاعلا من أستاذه إبراهيم النّظّام محفّزا على روح البحث العلميّ والتّفكير العقلانيّ.
     والمواضيع العلميّة في أبواب الكتاب متنوّعة شاملة، فهو لم يتخصّص ولم يكن كغيره يقصر الجهد على ضرب واحد أو الضّربين منها، واختار أن يكون دائرة معارف وموسوعة عصره محيطا بأكثر ما عُرِفَ من علوم إنسانيّة وآداب إلى حدود الفترة الّتي عاشها. 
* منهجه في « كتاب الحيوان»: وهو منهج علميّ، فقد قال في مقدّمة كتابه ( ج 1): « هذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنّه وإن كان عربيّا أعرابيّا، وإسلاميّا جماعيّا،فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السّماع وعلم التّجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسُّنَّةِ، وبين وجدان الحاسّة وإحساس الغريزة». فالجاحظ يعتمد الحواسَّ والعقلَ في إدراك الأمور: فمن عناصر تحقّق الحواسّ المعاينةُ، ومن عناصر تحقّق العقل التّجربةُ والفرضيّة والمقابلة والتّصنيف. وكلّ قول في نظر الجاحظ: « يكذّبه البيانُ فهو أفْحَشُ خطأً، وأضْعَفُ مذهبا، وأدَلُّ على معاندةٍ شديدةٍ، أو غفلةٍ مُفْرَطَةٍ».
     فأمّا التّجربة، فقد كان الجاحظ يعمد إلى طرق مختلفة منها أن يقطع أعضاء الحيوان أو يلقي عليه ضربا من السُّمِّ، أو يذبح حيوانا ليفتّش جوْفَه، أو يجمع الأضداد في إناءٍ ليَعْرِفَ كيف تتقاتل؟     أو يلجأ إلى موادّ الكيمياء لِيَعْرِفَ تأثيرها على الحيوان.
     وأمّا السّماع، فكان يلجأ إليه، ويتردّد على أهل العلم من زمانه، وينظرَ في كتب أرسطو وغيره. وكان يُعْمِلُ في ذلك عقلَه بالتّمييز والتّثبّت ( الشّكّ)، فيناقشَ ويحقّقَ في ما يسمع ( فحص المتن/ فحص السّند)، ومن ذلك يُثْبِتُ الخبرَ المسموعَ كما هو أو ينفي الشُّبْهَةَ عمّن يأتي بالخبر، أو يكذّب الخبرَ أو يعْجَب لقوله إذا لم يجد سبيلا إلى التّحقيق والتّثبّت.
     والجاحظ يجمع بين العقل والحواسّ، وفي ذلك يقول: « فلا تذهبْ إلى ما تريك العين، واذهبْ إلى ما يريك العقلُ. وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواسّ، وحكم باطن للعقول.  والعقل هو الحجّة». فهو تلميذ إبراهيم النّظّام الّذي كان يعتبر الشَّكَّ أساسًا للبحث، وعمد إلى التّجربة واستخدم المنطق في البحث عن الحقائق. وعنه أخذ الجاحظ، فجعل الشّكّ طريقا إلى اليقين، إذ يقول: « اِعْرِفْ مواضعَ الشّكّ والحالات الموجبة له لتعرفَ مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلّم الشّكّ في المشكوك فيه تعلّما». وهذا هو الشّكّ المنهجيّ الّذي يقوده إلى الإدراك واليقين.
     ويضيف الجاحظ إلى الشّكّ النّقدَ العلميَّ، فحارب الخرافات ونال من أصحابها بمن في ذلك العلماءُ مثل أرسطو الّذي آخذه على عدم التّعويل في تحقيقه على العيان والسّماع والامتحان، وهو مقصّر في الحديث عن الحيوان أحيانا كأن لا يستوفي ما تعلّق به من عجائب. والجاحظ في نقده       لا يقصد مجرّد النّقد وإنّما يستهدف اليقين وإدراك الحقيقة من ذلك.
-قيمة « كتاب الحيوان» الفنّيّة: الجاحظ ليس رجل الخيال الواسع، ولا هو رجل العاطفة المستبدّة، بل هو رجل الاعتزال، ورجل العقل والجدل الّذي يطلب الحقيقة بكلّ الوسائل، ويبحث طويلا في سبيل تحصيلها. فإذا أمكنه ذلك، عبّر عنها تعبيرا بَيِّنًا مُظْهِرًا جميع دقائقها وتفاصيلها، فتكون قريبة إلى الأفهام. ولذلك يعدل عن أساليب المجاز قدر المستطاع، فإذا أورد تشبيها أو استعارة فليس طلبا للزّخرف والصّنعة وإنّما للوضوح والإبانة بطريقة واقعيّة محسوسة. فالتّشبيه والاستعارة عنده بعيدان كلّ البعد عن التّعقيد والإغراب، قريبان كلّ القرب من الإفهام، ومن ذلك وصفه للحيّة وصفا حسّيّا سهلَ المأْخذ، لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى تخيّل عميق في التّشبيه قائلا: « ... غمست هذه الحيّة ذنَبَها في الرّمل، ثمّ انتصبت كأنّها رُمْحٌ مَرْكُوزٌ أو عُودٌ ثابتٌ».
     والجاحظ يراعي دائما مقتضى الحال، فهو خبير بنفسيّة الإنسان، ولا ينسى من يضع لهم كتبه، ولا يغفل عن الأحوال المكانيّة والزّمانيّة، فيتحدّث إلى قرّائه أو سامعيه ( تواتر ضمير « أنتَ» بكثرة) بأسلوب بعيد عن الصّنعة والتّمويه، فإذا عباراته وألفاظه تمتدّ تارة وتنقبض طورا آخر، وتسترسل مرّة استرسالا لا تقطّع فيه ولا تموّج وتتقطّع مرّة أخرى موسيقاها، فإذا ذلك الاسترسال وذلك التّقطّع فيهما مهارة وطبع وطرافة. فأسلوب الجاحظ الفنّيّ ينبض بنبض الحياة الحرّة المطلقة، وينأى عن جفاف الأسلوب العلميّ المجرّد، ويسترسل في الاستطراد والاستشهاد والجدل. ويميل  إلى الهزل في مواطن الجدّ، فتنكشف نفس الكاتب الخفيفة الظّلّ المطبوعة على الدّعابة والمرح، فتتراءى في كلّ حال وكلّ مقال، وبذلك يليّن بالسّرور ما للعلم وقضاياه المطروحة من جفاف، وإذا السّرور مأتاه نادرة غريبة أو فكرة لطيفة أو ترحّم هازئ، أو ما إلى ذلك من ضروب الهزل...  فهو يعلّق على أبي واثلة مستهزئا متهكّما: « ... فإن كان هذا هذا الخبر عن هذا الرّجل المذكور بشدّة العقل، المنعوت بثقوب الفراسة، ودقّة الفطنة، صحيحا، فما أعظم المصيبة علينا فيه!»...  وممّا لا شكّ أنّه بالاستطرادات وما يتبعها من ضروب مراعاة مقتضى الحال يضرّ بتماسك التّأليف ووحدته ويضعف المنطق العلميّ، غير أنّ ذلك يروق أبناءَ عصره ويروّج الكتب المصنّفة، ويُفْهِمُ الحقائق وينشرها، والجاحظ نفسُه لا يريد غير ذلك.
     وفيما يتّصل بلغته، فهي تستجيب لما يتطلّبه العقل وتحتاجه الحاجة إلى البحث عن الحقيقة. فالجاحظ يستهدف الإفهام، ويستعمل ألفاظا تفصح عن المعاني ويجريها مجرى الحقيقة لا المجاز، وذلك في قوله: « ليس الكتاب إلى شيء أحْوَج منه إلى إفهام معانيه حتّى لا يحتاج السّامع لما فيه، إلى الرّويّة، ويحتاج من اللّفظ إلى مقدار يرتفع به عن الألفاظ السِّفْلَةِ والحِشْوَةِ، ويحطّه من غريب الأعراب ووحشيّ الكلام». فالجاحظ مذهبه الوضوح، ولذلك التزم به وجرى عليه، فكانت ألفاظه دقيقة واضحة واقعيّة حسّيّة، وتجنّبت الخشونة والغرابة. وللجاحظ قدرة على اختيارها      بما لها من جرَس ورنَّة ( الجناس، السّجع، التّوازن التّركيبيّ، الازدواج اللّفظيّ، الطّباق والمقابلة) تتناغم مع المعنى، وقدرة على جعلها تتعالق، ويميّز ما ثَقُلَ منها وما خفّ، وما فيه استأناس       أو توحّش وغرابة. وهذا ما يدلّ على براعته وقدرته على اختيارها ووضعها فيما يناسبها من معنى بكلّ دقّة، ولا يجد في ذلك عسرا أبدا مهما كان القضيّة المطروحة معقّدة. فالجاحظ أشبه بالنّحّات  أو البنّاء في لغته،فيرصفها ويصنعها مراعيا في ذلك شيئين: الدّقّة والموسيقى ( الإيقاع). وهذا سرّ ما في لغته من طرافة وعذوبة واستحسان، ولكنّها لغة لا تخلو أحيانا من غموض يتأتّى من التباس الضّمائر إذا كثرت وتعاقبت، فلا يدري القارئ عمّ يتحدّث أو مَنْ يخاطب؟ ويمكن أن يتعلّق الغموض باستعمال ألفاظ أعجميّة أو عامّيّة مراعاةً لمقتضى الحال. وذلك هو الجاحظ المفكّر والإنسان، وهو العالم والأديب، والمعلّم والمتعلّم في أغلب كتبه ورسائله وخاصّة « كتاب الحيوان»./.

ملاحظة: عمل استند في إنجازه إلى بعض ما عرض له حنّا الفاخوريّ في كتابه « تاريخ الأدب العربيّ».
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.