تلخيص
رواية الدقلة في عراجينها للكاتب البشير
خريف
ستظلّ رائعة البشير خريّــــف «الدّقلة
في عراجينـهــا» مــن عيــون الرّوايات العربيّة المعاصرة، بل إنّها لجديرة بأن تُضمّ
إلى طراز الأعمال الرّوائيّة العالميّة. وهـــي في الحقيقة ثلاثيّة متينة متماسكة صُهرت
في رواية واحدة فمنحتها كثافة وعمقا وغنًى، وهي فسيفســـاء عجيــــب رُكّب بإحكام وشُكّل
بتدبيـــر، إذ اجتمعــت فيها قضايا متباينة متضافرة في آنٍ: بواكيــــر الوعي النّقابي
والسّياسي في عشرينــات وثلاثينات القـــرن المـــاضي إبّــان حـــــركة محمّد علي
الحامّي وحركة الدّستور الجديد، وإعاقات المجتمع التّقليدي الرّازح تحت أعباء التّمثّلات
البالية ولا سيّمــا نظـــرته إلى منزلة المرأة وارتهانه العلاقات الاجتماعيّة إلى
المـــال والمواريث والأنصبة، ثمّ قضايا الذّات البشريّة النّابضة بالقيم والمعاني
الإنسانيّة عندما تنزع إلى الحرّية وتقطع من أجل الوصول إلى تذوّق طعمها أخطر الأغيال
وأخوفها فتكتشف أنّهــــا درب لا سبيل فيه للوقوف.
وقـــد أفـــرزت هـــذه القضــايا مجتمعة
أبطالا على قــــدر بالـــغ من الجاذبيّة والتوهّـــج، إلّا أنّ «العطراء» تبقـــى
بطلة استثنائيّة لا تضـــاهيها إلّا بطـــلة «قوستاف فلوبير» الســـيّـــدة بوفاري:
une femme mal mariée كما يقال
في لغة موليار، ضاقت نفسُها بمنزلتها الدّون وبتزايد قيودها وأغلالها وبتقلّب الدّهر
وضرباته الموجعة فناجت ربّها طمعا في أن تنال – في غفلة من الزّمن – بصيصا من نور الحريّة
أو برهة من نعيم الانعتاق فانفتح لها بذاك الدّعاء المستجاب باب مُشرع عريض لم تستطع
إغـلاقه بعد أن جازته فظلّ مفتوحا على الدّوام يذكّرها بنسمات الطّلاقة والتّحرّر،
وظلّت هي حتّى آخر رمق من حياتها تستطيب طعم الحريّة ممزوجا بشعلة الحبّ المتّقدة.
بلغ البشير خريّف في هذه الرّواية ذروة
عالية من رهافة الحسّ والفطنة في سبر أغـــوار النّفس البشـــريّة والغــوص على مخبّآتها
واستكشــــاف غُصصها وأوجاعها وأتواقها وآمـــالها فرسم شخصيّات خالدة ونماذج بشريّة
عميقة تصوّر ما في الإنسان من نوازع متناقضة وميول متعارضة وما يتجاذبه من رفعة واتّضاع
ونبل وخساسة.
ثــمّ إنّ الرّوايــــة كتبت بلغة ليّنــة
منقادة فكأنّ الكـــلام فيها مــــاء يجـــري في جـــدول سلســـــال، وتمتـــــزج صلبها
الفصحى بالعاميّة امتزاجا شعريّا فيزيدها ذلك صدقا وشفافيّة وقدرة على إكساء الأحداث
إهاب الواقع لا الخيال، وهي مع ذلك كلّه لغة موحية لمّاحة غامزة عندما يستدعي المقام
الإشارة والتّلميح، ولغة كاشفــة هامـــزة إذا اقتضى الأمــر التّعيين والتّصريــــح.
والمحصّـــل أنّ رواية «الدّقلة في عراجينها» قصيدة شعــــريّة مطوّلة فيهـا من لمسات
الفـــنّ وقبسات الفكر ما يرفعها إلى منزلة الآثار الإنسانيّة الخالدة، فهي أيقونة
الرّواية التّونسيّة بلا جدال.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire