المنزع العقلي عند التوحيدي
مظاهر انعكاس العقل في كتابات التّوحيدي
1 - مظاهر المنزع العقلي في القضايا السياسية
و الاجتماعية و الثقافية و الدينية :
أ- في القضايا السياسية
: تصوير التوحيدي لفساد الحكم و الحاشية و لرداءة الوزراء إضافة إلى رسم ملامح العلاقة
بين الرّاعي و الرعية ...
ب- مثال في فساد
الرّاعي : يقول التوحيدي ّ انهمكوا في القصف و العزف و أعرضوا عن المصالح الدّينية
و الخيرات السياسية "
ت- مثال في فساد
الحاشية :يقول :" و منابع الفساد و منابت التّخليط كلّها من الحاشية التي لا تعرف
نظام الدّولة و لا استقامة المملكة ".
ث- مثال في رداءة
الوزراء : يقول متحدثا عن الوزير ابن عبّاد :" لا يرجع إلى الرقة و الرأفة و الرحمة
, و النّاس كلّهم محجمون عنه لجرأته و سلاطته و اقتداره و بسطته , شديد العقاب طفيف
الثّواب
".
ج- دعوته الساسة
إلى الاستنارة بآراء العقلاء و مراقبة الحاشية و الاقتصاد في الشهوات و النّزوات والنّظر
في أمور الرّعية و رفع مظالم الحاشية عنها . يقول التوحيدي موجّها الكلام إلى ابن سعدان
:" وآخر ما أقول أيها الوزير : مر بالصدقات فإنها مجلبة السّلامات و الكرامات
و مدفعة للمكاره و الآفات , و اهجر الشّراب و أدم النظر في المصحف و افزع إلى الله
في الاستخارة و الثقات بالاستشارة ".
ح- دعوة السّاسة
إلى اصطفاء حاشية نصوحة قادرة على توجيههم نحو الحلول السّليمة . يقول مخاطبا ابن سعدان
:" لا تبخل على نفسك برأي غيرك ....فان الرّأي كالدّرة التي ربّما وجدت في الطّريق
و المزبلة"
خ- دعوة السّاسة
إلى النّظر في شؤون الرّعية و تخفيف المحن و الشقاء و الفقر عنها لانّ تعمق الفاقة
يولّد الثورة و التمرّد.
د- دعوة السّاسة
إلى مراقبة الحاشية لانّ التوحيدي يراها أصل الفساد و البلاء و المحن لأنّهم
"قوم همّهم أن يأكلوا رغيفا و يشربوا قدحا, لا هم ممّن يقتبس من علمهم و لا هم
يتكلّفون له نصحا
"
2 - القضايا الاجتماعية: إن متابعة أبي حيّان
للظاهرة الاجتماعية ليست مجرد وصف أو نقل لما يدور في الأوساط الاجتماعية أو تصوير
لحياة الناس كما شاهدها و عايش أوضاعها , و إنما هي متابعة واعية تحاول فهم الطاهرة
في مختلف مكوّناتها تحديدا لعواملها و انعكاساتها على العامّة و الخاصّة ,انّه فهم
متبصّر لا يكتفي بالمعاينة بل يسعى إلى تتبع المعطيات تتبعا عميقا , و بهذا تسنّى لأبي
حيّان أن يكون شاهدا واعيا معاينا مدركا لأسرار ما شاهدته حضرته و بذلك كانت أجوبته
على أسئلة الوزير دقيقة وعميقة.
و يتسم وصف التوحيدي
لمجتمعه بإتباع منهجية مقنعة تدّل على أنه تمكن من رصد جميع المعطيات التي يحتاجها
تحليله.لذلك كان حديثه شافيا رسم من خلاله الحالة الاجتماعية , فقد تعّرض التوحيدي
إلى ما تعنيه العّامة من فقر و خصاصة بالإضافة إلى ظاهرة التفاوت الطبقي المجحف التي
أحدثت خللا في العلاقات الاجتماعية ممّا ولّد تناحرا بين الأجناس ( ظاهرة الشعوبية).
و هذه الأوضاع أدت
إلى عدّة ثورات و انتفاضات احتجاجا على سياسة الرّاعي و ما نتج عنها من رداءة في الواقع
الاجتماعي.
يقول متحدّثا عن
ظاهرة الفقر" إنها تشكو غلاء القوت و عوز الطعام و تعذّر الكسب و غلبة الفقر و
تهتك صاحب العيال..."
.
و يعلّق على رداءة
التجّار قائلا:" أما أصحاب الأسواق فانّا لا نعدم من أحد منهم خلقا دقيقا و دينا
رقيقا و حرصا مسرفا و دناءة معلومة ...قد تعاطوا المنكر حتى عرف و تناكروا المعروف
حتى نسي
."
و يشير إلى مسألة
رداءة العلاقات الاجتماعية قائلا :" أرى واحدا في فتل حبل و آخر في حفر بئر و
آخر في نصب فخّ و آخر في دسّ حيلة و آخر في تقبيح حسن و آخر في شحذ حديد و آخر تمزيق
عرض و آخر في اختلاق كذب ..." و هذا ما كان سببا في انهيار صرح المجتمع . و يقول
" سفكت الدّماء و استبيح الحريم و شنّت الغارات و خرّبت الدّيارات و فشا الكذب
و المحال و أصبح طالب الحق حيران و محبّ السلامة مقصودا بكلّ لسان.."
-3رسم الأوضاع الثقافية :
لم تكن الحياة الثقافية
بمعزل عن تناقضات المجتمع و محاور الصّراع و أمراض السلطة . و إذا كان للمجالس الثقافية
و الفكرية التي أقامها الوزراء و الأعيان فائدة في تنشيط الحركة الثقافية الاّ أن المثقف
في مثل هذه المجالس يكو ن مسلوبا في حريتة الرأي و التفكير المغاير لأهداف صاحب المجلس .
و يعترف التوحيدي
بمصادرة الفكر و تبعية الأديب في عصر كان القلم فيه أداة للتكسّب و البيع في سوق الكساد
. و يقول :" إنّ العاجلة محبوبة و الرّفاهية مرغوبة و المكانة عند الوزراء مطلوبة
و الدنيا خضرة حلوة , و من التهب طعمه ظهر عجزه و العزلة محمودة إلا أنها محتاجة إلى
الكفاية".
و قد حدّد التوحيدي
طبقات المثقفين و حصرها في العلماء و الأدباء و المتكلمين و القضاة و الصّوفية . وقد
ندّد بالفلاسفة الذين احتكروا المعرفة و استخدموها للمكاسب المادية و يورد رأي ابن
يعيش اليهودي الذي يشكو من الفلاسفة قائلا:" بأنهم صدّوا عن الطريق و طرحوا الشوك
فيه , و اتخذوا من نشر الحكمة فخّا للمثالية. "إلا أن ذلك لم يثن التوحيدي عن
الإشارة إلى الحركة الثقافية التي ازدهرت في عصره والتي تجسّدها مجالس المناظرات و
المحاورات بين المذاهب إضافة إلى المشاغل الفكرية و الفلسفية والكلامية و البلاغية
و الفقهية و النحوية.
-مثال في المشاغل الأدبية: ( المقارنة بين
النثر و النّظم –الموازنة البحتري و أبي تمام) يقول ابن سعدان " حدّثني في اعتقادك
في أبي تمام و البحتري "
-المشاغل الفكرية (قضية الجبر و الاختيار
/ الحق و الباطل / النفس و الجسد.../ العقل / المعتقد ...)
-المجالس و المناظرات ( المناظرة بين ابن
يونس القناني و أبي سعيد السيرافي )
-4رسم الواقع الديني و العقائدي :
سأل ابن سعدان أبا حيّان عن سبب
اختلاف المذاهب و تباينها بقوله :" من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب حتى افترقوا
هذا الافتراق و تباينوا هذا التباين , و خرجوا إلى التكفير و التفسيق و إباحة الدّم
و المال .." فكان الجواب "انّ المذاهب فروع الأديان , و الأديان أصول المذاهب
, فإذا ساغ الاختلاف الأديان –و هي الأصول – فلم لا يسوغ في المذاهب و هي الفروع"
بهذا التفسير المنطقي
يرّد التو حيدي على تساؤل ابن سعدان و يجيبه جوابا ربط فيه الأسباب بمسبّباتها على
طريقة الجاحظ في أساليبه المنطقية.
لقد كشف التوحيدي
عن كثرة المذاهب و الصّراع بين الفرق و التناحر بينها مما كان سببا في تراجع الدّين
و انقلاب القيم و الإفلاس الأخلاقي...
يقول متعرّضا لمسألة
انقلاب القيم " صار المنكر معروفا و المعروف منكرا" و يقول بارت البضائع
وغارت البدائع و كسد سوق العلم و خمد ذكر الكرم و صار الناس عبيد الدّرهم بعد الدّرهم"
و يقول متحدّثا عن
كثرة المذاهب و الفرق :" صار الناس أحزابا في النّحل و الأديان, فهذا نصيري و
هذا أشجعي و هذا جارودي و هذا قطعي و هذا جبّائي و هذا أشعري و هذا خارجي و هذا شعيبي....
و من لا يحصي عددها إلاّ الله..."
و هذا التنوّع المذهب
ولّد صراعا و نستحضر هنا قول ابن سعدان آنفا من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب
....و إباحة الدّم و المال "
هكذا نرى أنّ احتفال
التوحيدي بالحقل في المستوى المضمون تجلى من خلال و وظائف العقل التالية:
العقل الناقد : اضطلاع
العقل في الإمتاع و المؤانسة بنقد الأوضاع السّائدة اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا و عقائديا
. فانتهى إلى أن الزمان الذي يعيش فيه " زمان تدمع له العين " و العقل الناقد
تحقق من دون تعصّب أو مذهبية و إنما بجرأة و موضوعية و حرية . لذلك يقول ماجد يوسف
:" كان التوحيدي مفكّرا حرّا لم ينتم لمذهب و لم ينضو في جماعة و لم يتحزّب لرأي".
العقل المصلح : سعى
التوحيدي إلى تقديم حلول إصلاحية من شأنها أن تنقل الموجود المتدهور إلى عالم أجمل
و الزّمان الذي تدمع له العين إلى مدينة فاضلة و ذلك من خلال :
دعوته السّاسة إلى
الاستنارة بآراء العقلاء و مراقبة الحاشية و الاقتصاد في الشهوات و النّظر في أمور
الرعية و رفع مظالم الحاشية عنها ...يقول التوحيدي مخاطبا ابن سعدانّ" و آخر ما
أقول أيّها الوزير : مرّ بالصدقات فإنها مجلبة السلامات و الكرامات و مدفعة للمكاره
و الآقات و اهجر الشراب و أدم النظر في المصحف و افزع إلى الله في الاستخارة والى الثقات
بالاستشارة.
العقل المفكّر :
اضطلع العمل بالتفكير
في قضايا حارقة و معارف صعبة و أسئلة ماهوية في مجالات متعدّدة فقد فكّر عقل التوحيدي
في علم التنجيم وعلم السّحر و الكهانة و علم السّماع والغناء و علم الطّب و الحيوان
والنبات و الإنسان و علم الأخبار و النجوم و السّحب و علم تعبير الرؤيا و الأحلام و
علم اللّغة و البلاغة و المنطق و الفلسفة و علم الكلام...
العقل المصحّح: كثيرا
ما يتوسّل التوحيدي العقل من أجل ممارسة الرّوح النقدية على بعض الرؤى أو الأفكار أو
الأطروحات أو التصوّرات لينتهي إلى دحضها و تصحيحها بعيدا في كل ذلك عن منطق التعصّب
أو الوثوقية و ملتزما إلى أبعد الحدود بالرّوح الموضوعية من ذلك : اعتراضه على بعض
آراء أستاذه أبي سليمان المنطقي أو دحضه لتصّورات بعض المتكلّمين الذي قال عنهم
" إن الطّريقة التي قد لزموها و سلكوها لا تقضي بهم الاّ إلى الشك و الارتياب"
العقل الحجاجي :
توسّل أبو حيان العقل في ممارسة الحجاج و خاصّة في مجال :
-المناظرات مثل المناظرة بين النثر و الشّعر....
-المفاضلات مثل المفاضلة بين العرب و العجم
أو بين شعر أبي تمام والبحتري .
و العقل الحجاجي
اقتضى من التوحيدي أن ينوّع المسارات الحجاجية ( حواري –برهاني –العرضي) مثلما أملى
عليه تنويع الحجج (واقعية –منطقية –تاريخية...).
العقل المؤرّخ أو
التسجيلي
:
توسّل التوحيدي العقل
ليؤرخ لبعض ملامح العصر أو ليسجّل بعض الأحداث أو المظاهر و قد تميّز التوحيدي في هذا
المجال
:
-الالتزام بصرامة التاريخ و ذلك بذكر الأسماء
و الأعلام و التواريخ و نقل الأخبار الصحيحة بعد معاينة "يقول معلقا عن ثورة الرّوم
: » ذلك أن الرّم تهايجت على المسلمين فصارت إلى نصيبين بجامع عظيم زائد على ما عهد
على مرّ السنين و كان هذا آخر سنة 362 هجري فخاف الناس بالموصل و ما حولها "
-الحرص على الموضوعية و الأمانة العلمية
و من مظاهر ذلك تحليل أحاديثه بشواهد من النّقل أو الواقع أو التّجربة , تحقيق النصوص
و توثيقها و نسبتها إلى أصحابها , و إذا اختصر الكلام الذي سمعه نبّه على اختصاره
, و إذا حكى معنى و عبّر عنه بأسلوبه صرّح بذلك . من ذلك قوله : فقال كلاما كثيرا أنا
أحكيه على وجهة من وجهة المعنى و إن انحرفت عن أعيان لفظه و أسباب نظمه , و اجتهد أن
ألتزم متن المراد و سمت المقصود ".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire