الإنسان و قدره
الركن
السادس من أركان الإيمان هو الإيمان بقضاء الله وقدره، والمؤمن مسلّم لله عز وجل مؤمن بأنه ما من شيء في هذا الكون يقع إلا
وقد قدره الله وأحاط علمه به قبل وقوعه وإن ما وقع لا يخرج عن مشيئته وقدرته فهو
الخالق لكل شيء. الإيمان القدر هو الركن السادس من أركان الإيمان وأنه لا يتم
إيمان أحد إلا به ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه بلغه أن بعض الناس
ينكر القدر فقال : " إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني براء منهم وأنهم برآء مني ،
والذي يحلف به عبد الله بن عمر ( أي : يحلف بالله ) لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم
أنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" إنّ مسألة القضاء والقدر لا تختص
بالدين الإسلامي دون بقية الأديان السماوية، بل هي مسألة لها جذور زمنية ممتدة
وتوغّل عميق في الفكر الديني والإنساني.
يعرف
الراغب الأصفهاني القدر بقوله ( الشيء،
يقال: قدَرْته وقدّرته، وقدّره بالتشديد أعطاه القدرة...فتقدير الله الأشياءعلى
وجهين، أحدهما: بإعطاء القُدرة، والثاني:بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص
حسبما اقتضت)الحكمة ) « -المفردات في غريب القرآن ص 395- أمّا ابن منظور فيقول : القدر القضاء
الموافق، يقال: قدّر الإله كذا
تقديراً، وإذا وافق الشُيء الشَيء
قلت: جاءت قدَره.. القدْر والقَدَر القضاء والحكم، وهو ما يقدّره الله عزّ وجلّ من
القضاء ويحكم به من الأمور. وقدَر
الشيء يقدرُه قدْراً وقدَّره: قاسه التقدير على وجوه من المعاني عدّ بعضها ) لسان
العرب ابن منظور ج11 ص 55/57
في لسان العرب القضاء: الحكم.. وأصله القطع والفصل »يقال: قضى يقضي
قضاءً فهو قاضٍ إذا حكم وفصل. وقضاءالشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، فيكون
بمعنى الخلق «
من
العلماء من فرق بين القضاء و القدر ، ولعل
الأقرب أنه لا فرق بين القضاء و القدر في
المعنى فكلٌ منهما يدل على معنى الآخر ، ولا يوجد دليل واضح في الكتاب والسنة يدل
على التفريق بينهما ، وقد وقع الاتفاق على أن أحدهما يصح أن يطلق على الآخر ، مع
ملاحظة أن لفظ القدر أكثر وروداً في نصوص الكتاب والسنة التي تدل على وجوب الإيمان
بهذا الركن .
قال
الأمام احمد رحمه الله تعالى : القدر قدرة الله.ا. لأنه من قدرته ومن عمومها بلا
شك وهو أيضاً سرٌ الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى .
مكتوب في اللوح المحفوظ في الكتاب المكنون الذي لا يطٌلع عليه أحد ونحن لا نعلم
بما قدّره الله لنا أو علينا أو بما قدَّره الله تعالى في مخلوقاته إلا بعد وقوعه
أو الخبر الصادق عنه .
هناك
فرق هائل بين الإيمان بالقدر والاحتجاج به، فنحن نؤمن أن كل شيء بقدر الله، بمعنى
إذا أصيب العبد بمصيبة، وقال: هذا بقدر الله وينبغي علي أن أصبر وأحتسب فهذا حق
وواجب يلتزم به فقد أمر الله به عباده الصالحين قال تعالى( لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ( الحديد:23(
منزلة الإيمان بالقضاء والقدر بين بقية أركان الإيمان:
ترجع
أهمية هذا الركن ومنزلته بين بقية أركان الإيمان إلى ارتباطه مباشرة بالإيمان
بالله تعالى، وكونه مبنياً على المعرفة الصحيحة بذاته تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته
الكاملة الواجبة له تعالى. وقد جاء في صفاته سبحانه صفة العلم والإرادة والقدرة
والخلق، ومعلومٌ أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس.ولا شك أن الإقرار بتوحيد الله
وربوبيته لا يتم إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فمن زعم أن هناك خالقاً غير الله
تعالى فقد أشرك، والله تعالى خالق كل شيء،ومن ذلك أفعال العباد.وحين ننظر إلى هذا
الكون ونشأته وخلق الكائنات فيه ومنها الإنسان نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان
بالقدر، الإيمان بالقدر هو المحكّ الحقيقيّ لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه
الصحيح، وهو الاختبار القويّ لمدى معرفة الإنسان بربّه تعالى، وما يترتب على هذه
المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال.
و
معنى القضاء والقدر أنّ كلّ شيء مقدَّر للإنسان مكتوب علي منذ الأزل بحيث لن يكون
بمقدوره أن ينفكّ عن مصيره المقرّر
له سلفاً، على ما يُوحي به عدد كبير من النصوص القرآنية والروائية، كما في قوله
سبحانه: ( قُلْ لنَْ يصيبنا إلِامَا كَتَبَ اللهُ
(التوبة:51(
و في
الحديث الشريف ( فو الله ما علوتم ترعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلاّ بقضاء من الله
وقدر ) القدر إذن هو تقدير الله تعالى
الأشياء في القِدَم ، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات
مخصوصة ، وكتابته سبحانه لذلك ، ومشيئته له ، ووقوعها على حسب ما قدرها ، وخَلْقُه
لها .
إنّ
مسألة القضاء والقدر كانت ولا تزال من أعقد المسائل الكلامية التي شاع النزاع
حولها في الأوساط الإسلامية ، وقد تشعّبت فيها الآراء واختلفت مناهج تناولها من
قبل الباحثين .لقد أخذت هذه المسألة حيّزاً هاماً في بحوث ودراسات مفكري الإسلام ،
وشغلت الكثير من رجال الدين نتيجة تأثيرها البالغ في أوساط الحياة الاجتماعية
.
إنّ
الإشكالية الأساسية التي تكمن في مسألة القضاء والقدر ، تعود إلى الالتباس الناشئ
عن تصوّر التعارض بين الاختيار والإيمان بالقضاء والقدر لدى بعض الفرق الإسلامية .
إنّ لمسألة القضاء والقدر تأثير مباشر على الواقع الاجتماعي ، ولهذا ينبغي تصحيح
أفكار المجتمع إزاء هذه المسألة، لئلا يترك الفهم الخاطئ لها أثراً سلبياً في
الصعيد الاجتماعي.
وقال
الشاعر الفيلسوف المسلم الدكتور محمد إقبال:
)المؤمن
الضعيف هو الذي يحتجُّ بقضاء الله وقدره، أما المؤمن القوي فهو يعتقد أن قضاء الله
الذي لا يُرد، وقدره الذي لا يُدفع(
يقول
شيخ الإسلام رحمه الله:
" الْقَدَرَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ
"
من نتائج الفهم الواعي للقضاء و القدر :
-إن
الإيمان بالقضاء والقدر يثمر تصحيح الاعتقاد في ذات الله وفي أسمائه وصفاته
.
-إن
الإيمان بالقضاء والقدر ينمي الجوانب العملية عند المسلم .
-أن
الإيمان بالقدر يحقق الترابط الاجتماعي ويقويه .
- إن
الإيمان بالقدر يسمو بأخلاق المسلم إلى أرفع المقامات .
الفهم الخاطى للقضاء والقدر :
إن
عقيدة القضاء والقدر قد امتزجت بالجبر في نفوس بعض المسلمين . لقد ذهب المجبرة أن
الإنسان مجبور في جميع أفعاله وتصرّفاته بما قضى اللّه تعالى له وقدّر. فقد ذهب
المجبرة أن العبد ليس له قدرة ولا اختيار
وإنما هو مسير لا مخير كالشجرة في مهب الريح ، ولم يفرقوا بين فعل العبد الواقع
باختياره وبين فعله الواقع بغير اختياره إنّ الفهم الخاطئ لمعنى القضاء والقدر.
إن الفهم غير الواعي للقضاء و القدر جعل
بعض المسلمين يفعل الذنب والمعصية ويصر
عليها ويحتج على فعله بأن ذلك هو قدر الله، فانتقل من دائرة الإيمان بالقدر إلي
الاحتجاج به على معصيته كما قال المشركون (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
وَلا آبَاؤُنَا )الأنعام:148 فهذا القول منهم ليس على سبيل الندم أو الحزن بل على
سبيل الاحتجاج بالقدر على المعصية المصر عليها كقول إبليس : (رَبِّ بِمَا
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ ) الحجر:39 لذلك نقول لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب والذنوب،
وإنما يحتج بالقدر على النكبات والمصائب: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ البقرة:156. وهذا هو الفارق
بين المؤمن وأهل العجز ممن يحتجون على معصيتهم بالقدر فلا يبنون ولا ينتجون ولا
يصنعون مستقبلهم، ولذلك قال السلف: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير.
لقد
حاول بعض الساسة قديما و خاصة الأمويين نشر عقيدة الجبر و بذلك إفراغ مفهوم القضاء و القدر من محتواه الحقيقي ـ منها القضاء والقدر ـ
لأسباب ترتبط بخدمة مصالحها السياسية .كما
إنّ بعض وعّاظ السلاطين والسذّج من الدعاة روّجوا المعنى الخاطئ للقضاء
والقدر عن طريق مدح الكسل والخمول والتقوقع باسم فضل الزهد والصبر والتوكّل
.
تبعات الفهم الخاطئ للقضاء والقدر :
1 ـ
التلبّس بالعقلية المستسلمة التي تركن إلى الوهن والتكاسل والعجز والخمول
2 ـ
وهن العزائم وتثبيط الهمم وشّل الإرادة وتعطيل السعي وبث روح الكسل بالتقاعس عن
العمل .
3 ـ
تفشّي الانحطاط والتخلّف والفشل في أوساط الواقع الاجتماعي نتيجة إمحاء دواعي
السعي من الخواطر وغلّ الأيدي عن العمل .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire