أعلان الهيدر

الرئيسية الإنساني بين الوحدة والكثرة

الإنساني بين الوحدة والكثرة


الإنساني بين الوحدة والكثرة

الإنساني بين الوحدة والكثرة
تقديم الإشكال:
إنّ صياغة المسألة على هذا النحو :”الإنساني بين الوحدة والكثرة”، إنّما تنطوي على إشارات إشكالية مخصوصة، علينا البدء بالتقاطها من الجهة المناسبة لها، حتى لا نسيء الطريق إلى نمط المعالجة الذي من شأنها. من هذه الإشارات علينا أن نذكر:
1. لماذا “الإنساني” وليس “الإنسان”، كما تعوّد الفلاسفة من دهرهم أن يفعلوا، من أفلاطون إلى كانط ؟ هل يعني ذلك أنّ التعريفات الفلسفية الكلاسيكية لمفهوم “الإنسان” قد صارت غير مناسبة لفهم أنفسنا، ومن ثمّ هي محاولة للبحث عن تعريفات جديدة أكثر إيفاءً بخصائص الظاهرة الإنسانية ؟ أم أنّه اعتراف ضمني بأنّ “مفهوم” الإنسان هو ادّعاء منهجي لم تستطع الفلسفة أن تفيَ به إلى حدّ الآن، ومن ثمّ يجدر بنا نقل المشكل من مستوى سؤال الميتافيزيقيين- الباحثين في ماهية الموجودات- “ما هو الإنسان؟” إلى سؤال المؤرّخين- لوضعية النوع الإنساني- “من هو الإنسان؟” ؟
2.  من أجل أنّ “الإنساني” سيظل رغم كل تحفّظاتنا صفة نشير بها إلى “الإنسان”، فإنّ علينا أن نسأل: ما دلالة هذا التراجع الفلسفي من موقف “تأسيسي“، كانت غايته العليا إرساء “علم الإنسان”، ومن ثمّ تعيين ماهية الإنسان، إلى موقف “تاريخي“، لا-تأسيسي،يكتفي بوصف ظواهر الإنساني وفهمها، دون أي قرار ميتافيزيقي حول ماهية الإنسان ؟
3.  أنّ الشطر الثاني من العنوان أي “بين الوحدة والكثرة” لا يخلو هو أيضا من حيرة منهجية، وذلك ليس فقط كما يظهر لنا من حرف “بين”، التي تفيد الوصل والفصل معا، بل في مواصلة التعويل على التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين “الواحد” و”الكثير” في تقدير الموجود. فإنّ هذه الصيغة ليست جديدة تماما في الفلسفة، حيث أنّنا نعلم أنّ أفلاطون هو من أدخل “الثنائيات” في ماهية الإنسان، ومنها على وجه الخصوص وحدة النفس –العقلية- وتكثّر الجسم –الحسية. وهو وضع منهجي بقي سائدا ومعمولا به إلى حدّ كانط.ولذلك فإنّ الجديد حقا هو هذا التنصيص الصريح على “البينية”: إنّ الإنساني هو ميدان يتشكّل “بين” الوحدة والكثرة. وهذا الحرص على فهم “البين” ورفعه إلى رتبة المقام التأويلي لفهم أنفسنا، ليس مقصدا أفلاطونيا ولا كانطيا. بل هو موقف “ما بعد ميتافيزيقي” أصلا. ونعني بذلك أنّه نقل لغة الإشارة إلى إنسانيتنا، من السؤال الميتافيزيقي “ما هو” الإنسان؟، حيث يغلب منطق “الوحدة“، إلى السؤال التاريخي “من؟” يكون الكائن الإنساني، حيث يحتدّ منطق “الكثرة” لأوّل مرة في معنى كينونة هذا الإنسان.
4. رغم القيمة الاستكشافية للتساؤلات السابقة، فإنّها ستظلّ إشارات عامة إذا لم نجد لها ما يسندها وما يبررها في تاريخ مفهوم الإنسان نفسه. ونحن نقترح أن نبني الفرضية التالية: إنّ فهم الفلاسفة للإنساني قد مرّ بمرحلتين كبيرتين: أولاهما يمتدّ من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث تم بناء التعريف الفلسفي الأكبر للإنسان “zoon logon echon”/الحيوان القادر على الكلام، إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث توّج كانط هذه النظرة الميتافيزيقية العريقة ببناء السؤال الذي تأخّر طرحه الصريح، ولم يُطرح إلاّ بعد أن أخذ يستنفد فعاليته المنهجية ، “ما هو الإنسان؟” (أوّلا في رسالة بتاريخ ماي 1793 ، ثم في دروس في المنطق سنة 1800)؛ أمّا المرحلة الثانية، فهي قد تشكّلت في القرن التاسع عشر، مع أكبر حدث “علمي” حول حيوانيّة الإنسان، نعني ظهور كتاب داروين “في أصل الأنواع” سنة 1858، الذي جعل من الممكن لأوّل مرة أن ينخرط العلماء والفلاسفة، ليس فقط في كتابة تاريخ الطبيعة البشرية، على نحو غير مسبوق، بشكل نقل مصير الحيوان العاقل من أفق البحث عن “خلود النفس”، إلى سياق التنقيب عن أصله الحيواني “المتحوّل”، الذي سيقوده إلى سلالة القردة العليا،وليس إلى الملائكة، – بل على وجه الخصوص إلى التفكير في شروط إمكانمراجعة طبيعة النوع الإنساني هذه وإعادة تربيتها وتحريرها ولم لا تحسينها، وهو منحى من البحث ما بعد الميتافيزيقي في معنى الإنساني وجد تعابير شتى عنه في الكتابات المعاصرة امتدت من نيتشه إلى ليوتار، ومن التحليل النفسي إلى فلسفات ما بعد الحداثة، ومن “اليوجينيا”-  Eugénisme(وهي “مجموعة الأفكار والأنشطة التي تهدف إلى تحسين نوعية جنس الإنسان عن طريق معالجة وراثته البيولوجية”) التي نشأت على يدي فرنسيس
جالتون، ابن خالة تشالرز داروين، في أواخر القرن التاسع عشر، إلى التكنولوجيا الوراثية لاكتشاف “الجينوم” البشري في التسعينات من القرن العشرين.
كيف يجدر بنا الآن، بعد أن بسطنا ملامح الحقل الإشكالي الذي تشير إليه عبارة “الإنساني بين الوحدة والكثرة”، أن نبني خطة المعالجة المناسبة للصعوبات التي تكتنف كل مستوى من مستويات تخريج هذه الإشكالية ؟ من الممكن أن نقسّم المهام التي تطرحها خطة المعالجة كما يلي:
أ- بأيّ معنى يمكن اعتبار السؤال “ما هو الإنسان؟” هو الصيغة الكلاسيكية العامة، من أفلاطون إلى كانط، التي قامت عليها جهود الفلاسفة في تأمين اتساق محمود في معنى الإنساني بين الوحدة والكثرة ؟
ب- إلى أيّ مدى نجح العلماء والفلاسفة المعاصرون بعد دروين في إعادة كتابة تاريخ الطبيعة البشرية، بوصفها طبيعة “متحوّلة”، ومن ثمّ في نقل صيغة البحث في الإنساني من صيغة “ما هو؟” إلى صيغة “من هو” الإنسان ؟
ج- كيف يجدر بالمتفلسف أن يقوّم جهود البيولوجيين المعاصرين ليس فقط في استكشاف البنى الوراثية للجينوم البشري الموحّد بل في العمل صراحة على بلورة “يوجينيا” تفضي إلى تحسين جنس الإنسان من خلال السعي المخبري إلى اقتراح برمجة وراثية جديدة لأعضائه ؟
1-  ما هو الإنسان؟” أو بأيّ معنى يُقال عن الإنساني إنّه “واحد” في ماهيته ؟
علينا الاعتراف بأنّ السؤال الذي طرحه كانط “ما هو الإنسان؟” واعتبره بمثابة الأفق الجامع لبقية أسئلته عن المعرفة والفعل والرجاء، هو الصيغة الاولى بوجه ما لتفسير دلالة الأطروحة القاضية بأنّ “الإنساني” هو مكوّن في نفس الوقت “بين الوحدة والكثرة”. إذ ماذا يمكن أن تعني “الوحدة” غير ضرب من “الماهية” التي هي ما يجعل من “إنسان” ما إنسانا ؟ وماذا يمكن أن تعني “الكثرة” غير ما يعرض لهذه الماهية ويطرأ عليها من خارج صورتها ؟
فإذا استشرنا حقب تاريخ الفلسفة التي اشتغل فيها سؤال “ما هو؟” وبسط صلاحيته المنطقية التي لا تُرد باعتبارها تنطوي على صلاحية أنطولوجية، أي من أفلاطون إلى كانط، فإنّ الفلسفة ستقترح علينا نمطا يكاد يكون واحدا من التخريج المنهجي لتلك “البينية” التي تفصل وتصل بين الوحدة والكثرة، وإن كان ذلك يتم في الظاهر من خلال مصطلحات مختلفة: فإنّ تعريف الإنسان بأنّه “نفس” أو “حيوان عاقل” أو “جوهر” أو “ذات” أو “أنا” أو “وعي محض” أو “روح” هي كلّها صيغ مختلفة مما سماه الإغريق ” upokeimenon” أي “الحامل” (substrat، subjectum) الذي يحمل أو تُحمَل عليه صفات أو أعراض شتى.
كل ما يتعلق بمعاني الوحدة والكثرة متضمّنة في هذا الفهم للوجود. وليسالإنسان غير الموجود الذي جعل من فهمه لنفسه دليلا على صحة التصور الذي يحمله عن طبيعة الموجودات. وهذا ، على عكس ما نظن، أمر مشترك بين القدماء والمحدثين. والقصد هو أنّه يوجد ارتباط أساسي بين تصوّر الموجودات بوصفها “جواهر”، أي أشياء قائمة بنفسها من جهة ما تملك “صورا” ثابتة هي ماهياتها، وبين تصوّر الإنسان بوصفه “نفسا” أو “ذاتا” أو “أنا”، حيث أنّ النفس لدى اليونان، مثلها مثل “الذات” أو “الأنا” لدى المحدثين، هي “جوهر” قائم بنفسه، أي هو “حامل” منطقي وأنطولوجي لصفات أو أعراض متعددة لا توجد إلا به، في حين أنّه هو مستغن عنها في استمرار وجوده لأنها ليست من مقومات ذاته.
هذا البرنامج العام للتمييز بين “الواحد” و”الكثير” يكاد يكون هوهو من أفلاطون إلى كانط: فالوحدة هي نوع من العناصر أو الخصائص الثابتة التي تقوّم وجود موجود ما، في حين أنّ الكثرة هي ما يقبل التغير والزوال، لأنها تدخل في باب الممكن والحادث والعرضي والمؤقت الخ.
كيف ينطبق ذلك على الإنسان ؟
إنّنا بمجرد طرح السؤال “ما هو الإنسان ؟”، نحن نفترض سلفا أنّ الإنسان موجود له “ماهية”، وما يبقى هو مسألة تمييزها عن “الأعراض” التي لا تدخل في تلك الماهية. لو أخذنا الآن المسألة من جهة الوحدة والكثرة ماذا تقول الفلسفة؟
يقول أفلاطون في محاورة بارمنيدس:
والآن إذا كان الواحد غير موجود، فإنّه لا يمكن أن نتصوّر أيّ شيء من الأشياء الأخرى لا بوصفه واحدا ولا بوصفه كثيرا؛ إذ أنّه دون الواحد، يستحيل أن نتصوّر الكثرة”(166(
حين نطبق هذا الفهم الكلاسيكي للوحدة والكثرة على الإنسان، يتبين سريعا أنّ القصد هو أنّ تعريف الإنسان بأنّه “حيوان عاقل” يعني فقط أنّه يملك ماهيةواحدة هي “عقله” وأنّ ما عدا ذلك هي كثرة “حسية” ليست محددة لماهيته. إنّ النتيجة الكبرى لهذا الفهم مزدوجة: من جهة، إقحام “الثنائية” في طبيعة النفس الإنسانية، ثنائية بين جزء إلهي وجزء حيواني في ذاتنا، وهو ما صار خاصية ميتافيزيقية للفكر “الغربي” بعامة منذ أفلاطون؛ ومن جهة، اكتشاف ما أطلق عليه أفلاطون في الجمهورية (IX، 588د) اسم “الإنسان الباطني” واعتباره الإنسان “الحقيقي”.
ورغم أنّ المجهود اللاحق منذ أرسطو هو الحدّ من هذه “الثنائية” بالدفاع عن وحدة الإنسان من خلال لعبة لغوية جديدة هي لعبة المادة والصورة ، بحيث أنّ الوحدة “الصورية” غير ممكنة إلاّ من الكثرة “المادية”، فإنّ الفهم الفلسفي الكلاسيكي لمعنى الإنساني قد ظل دوما إلى حد كانط تحت وطأة ثنائية “الواحد” الصوري (العقلي والجوهري) و”الكثير” المادي (الحسي والعرضي) دون تغيير أساسي.
ونعني بذلك هذا: إنّ الكثرة لم تبدأ في الدخول في ماهية الإنساني إلاّ في وقت جدّ متأخّر. وعلينا أن نسأل: لماذا ؟
يبدو أنّ أفضل طريقة لامتحان هذا الامتناع الميتافيزيقي لدخول الكثرة إلى الماهية النوعية للإنساني هو تفكيك التعريف اليوناني (الأرسطي) للإنسان بوصفه “zoon logon echon” باعتباره ينطوي بعدُ على شطر من الحلّ.
الإنسان حيوان عاقل”- في هذا التعريف يقابل “الإنساني” ما هو حيوان ولكنه “غير إنساني”؛ ومن ثمّ فمنذ أول تعريف فلسفي له، ارتبط الإنساني بأمرين: أ- ما هو حيواني؛ ب- ما يتميّز به نوع حيواني، وهو ما تمّت الإشارة إليه من خلال متوالية من الألفاظ الدالة، من قبيل “العقل”، “الذكاء”، “الكلام”، “الضحك”، “الرمز”، “السياسة”.
إنّ تعريف الإنساني بأنّ “حيوان” هو طريقة مشتقة من قرار عميق وأكثر خفاء لأنّه أقدم منه، سماه أغمبن (Agamben)،أحد الفلاسفة الإيطاليين المعاصرين، قرار رسم خط فاصل بين الإنساني والحيواني في فهمنا لأنفسنا. وهو أخطر قرار أخلاقي حول ماهية الإنسان في تاريخ النوع.
من أجل ذلك لا يستطيع المتفلسف أن يفكك هذا المعطى المصاغ بشكل تقريري “الإنساني بين الوحدة والكثرة” إلاّ بقدر ما ينقله إلى صيغة إشكالية داخلية. وعلينا أن نسأل: ما هو “الإنساني” في التعريف المشار إليه ؟ وهو ما يعني: إذا كان الإنسان “حيوانا” (وهذا الأمر تقرر من اليونان إلى علم الوراثة) فإلى أيّ حد يمكننا أن نعزل العنصر “الحيواني” (غير الإنساني) فينا من تعريفنا لأنفسنا ؟ أين ينتهي انتماؤنا إلى مملكة الحيوان بحيث نستطيع أن نمارس الادعاء الأدبي الذي يمكننا من أن نسأل عن “ماهية” الإنساني حقا، وليس عن “الحيواني”، خطأ ؟ وإذا كان “الجسم” هو مطية الإنسان الوحيدة للإقامة في “نفسه” فإنّ علينا أن نفلح في تحديد الخيط الفاصل بين الشكل الحيواني لأجسامنا و”الشكل الإنساني” لما نعتقد أنّه نحن ؟
إنّ الإنساني إذن مهمة شائكة وسيرورة عليها قطعها، وليس معطى طبيعيا ننطلق منه. ورأس الأمر في فهم طبيعة القرار الأخلاقي الذي جعل نوعا من الحيوانات يرسم خطا فاصلا بينه وبين بقية السلالة الواسعة التي ينتمي إليها، هو ظهور الإنساني وكأنّه برنامج لفك الارتباط مع “اللاّإنساني” على نحو يمكّن من تسخيره واستعماله كأنّه موجود من أجله. إنّ معنى “وحدة” الإنساني لا ينفصل عن الفهم “الغائي” لوجوده في العالم.
ولذلك علينا أن نصوغ سؤالنا الأساسي الأول على هذا النحو: بأيّ معنى يُقال عن “الإنساني” إنّه “واحد” في ماهيته ؟
إنّ حرص اليونان على حمل إنسانية الإنسان على حيوانيته، يفضي بنا إلى بعض من الاضطراب. هل غيّر المحمول عليه ؟  من أجل ذلك يبدو لنا السؤال الكانطي: “ما هو الإنسان؟” متأخّرا جدا عن النقاش اليوناني، وذلك يعني مفرَغا من الثراء والتعقد الذين طبعا التعريف الذي يجعل من الإنسان “حيوانا عاقلا”.
إنّ كانط لم يخترع سؤال “ما هو؟”. وهو، مثل أقطاب فلسفة الأنا الحديثة، يقف على أرضية السؤال “ما هو؟” دون أن يناقشه. ولذلك فسؤال المحدثين “ما هو الإنسان؟” من ديكارت إلى كانط هو سؤال متأخّر ومتكلّف، وهذا يعني أنّه وريث طريقة في طرح الأسئلة لم يكن ديكارت ولا كانط نفسه مهيّأ للتحرر منها.
إنّ أيّ جواب عن معنى “الوحدة” في الإنساني لا يمكن أن يتفادى السؤال “ما هو الإنسان؟”. ومن ثمّ فإنّ معنى “الوحدة” المبحوث عنه لا يمكن انتظاره في أفق فهم آخر غير أفق سؤال الماهية، ليس فقط في صيغته الأولى، كما دشّنه اليونان، بل حتى في صيغته المأزومة منذ نيتشه.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.