الفنان التشكيلي ليوناردو دافنشى
إن
إلقاء نظرة على تخطيطات ليوناردو، تمنحنا استنتاجا يدل على العالم الواسع والعميق،
فإنه درس الحياة والطبيعة بمعناها الكبير بواسطة تخطيطاته، فهي كانت الوسيلة
الأمينة والدقيقة والحساسة التي عبرت عن دراساته وانطباعاته، وتجاربه وأفكاره
للطبيعة والحياة، ويمكن القول دون مبالغة، بأنه تعمق في فهم كنه الحياة والطبيعة وفكر
وأنتج بمساعدة فن التخطيط، فقد رسم حتى أفكاره العلمية، ونلاحظ مراحل تطور هذه
الأفكار من خلال تطور تخطيطاته.
أما
في تخطيطاته التشريحية، فإن من الصعب أن تجد الحدود الفاصلة بين بحوثه الفنية
ومسيرته العلمية فيها. لقد كان ليوناردو يعتقد بأن الفنان الجيد يجب أن يكون ملما
بكل شيء، ولهذا نراه يخطط في كل مكان وكل شيء وفي كل الأوقات، حتى أصبح التخطيط
لديه حاجة ضرورية كالأكل والشرب. وهو ينصح الفنانين الشباب قائلا:
"بعد ما تدرس المنظور بشكل علمي وعميق، وتعرف بواسطته الموقع الصحيح
لكل المرئيات، حينئذ أحمل معك دفترا للتخطيطات السريعة لكي تسجل انطباعاتك عن
الناس والطبيعة، وأنت تقضي أوقاتك خارج البيت، فلاحظ الناس والمحيط، وخططهم وهم في
حالة التحدث والجدال والضحك وحتى العراك، فالصور الفنية التي تشاهدها تتجمع لديك
بالتدريج، بحيث تعجز ذاكرة أي فنان عن جمعها بدون الطريقة المذكورة، فيصبح لديك
بعد فترة أرشيفا غنيا يكون لك خير مساعد وأستاذ ".
لقد
كان ليوناردو في التخطيطات الأولى متأثرا بأستاذه فيروكو، إلا أنها كانت "أي
التخطيطات" أكثر جدية وسلاسة وجمالا وتعبيرية من تخطيطات أستاذه المذكور،
وبعد فترة أوصل هذا الفن الى مستويات عظيمة.
إن
التخطيطات التمهيدية للوحات ليوناردو تلقي لنا ضوءا ساطعا على المراحل الطويلة
التي كان يقطعها وهو في طريقه إلى رسم اللوحة، والتي كانت تأتي متوجة وهي في أبهى
حللها وبطابع متميز وأسلوب خاص بالفنان.
إن
ليوناردو في مجموعة تخطيطاته عن العائلة المقدسة، لم يبتعد عن الواقع الموضوعي،
بالرغم من الطابع الديني لها، إذ كانت مستمدة تماما من الحياة الدنيوية والطبيعية.
إن جميع التخطيطات السريعة التحليلية للفنان مرسومة عن طريق الذاكرة، ولكنها علمية
بدرجة يتخيلها المشاهد بأنها مرسومة على الموديل، ويكمن السبب بأن مئات الانطباعات
المسبقة التي تراكمت في ذهن الفنان العبقري قد ساعدته وتجسمت في لحظة التخطيطات
المرسومة "أي عن طريق الذاكرة " ‘ بحيث أصبحت أغنى وأعمق بكثير من الرسم
على الموديل، لقد كان يدمج ببراعة مدهشة "الأرشيف الفني" في ذاكرته
والموديل الحي، مستنتجا عملا رائعا جدا.
كان
ليوناردو يخطط للموضوع المراد رسمه مجموعة من التخطيطات التمهيدية، ومن ثم يبدأ
برسم أجزائه مستعينا في بعض الأحيان بالموديل. لقد كان ليوناردو، على النقيض من
رفائيل وفرابارتو ولوميو وأندريا ديل سارتو، لايلجأ الى الموديل بسرعة، بل يستعين
بذاكرته إلى أقصى الحدود الممكنة، ويحاول استلهام الحركات والوضعيات المطلوبة
بمراقبة الموديل مباشرة، وكما قلنا بالرسم عن الموديل في بعض الأحيان. لقد كان
ليوناردو يغير من التكوينات الفنية للوحاته عشرات المرات، ويبحث عن شكلها المتكامل
بروح المثابرة العظيمة غير شاعر بالضجر والملل.
إن
تخطيطات ليوناردو تمثل وحدها عالما متنوعا وغنيا منتهى الغنى بمضامينها الإنسانية
وأشكالها الرائعة ومعالجاتها المدهشة، إنها أفكار وملاحظات وتحليلات الفنان
والعالم والباحث العظيم عن أسرار الناس والطبيعة. لقد منح ليوناردو آفاقا واسعة
وأبعادا كبيرة لمفهوم فن التخطيط، بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ هذا الفن الذي
رفعه إلى مصاف الفنون الخالدة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire